وكان قبالة السرير مرآة كبيرة في طول الفراش وعرضه فكنت أرى نفسي فيها كما كنت في الفراش. ثم قمت في الصباح وجاءتنا خادمة صبيحة بصبوح أو فطور. ثم عدت إلى محلي فوجدت فيه فلانا ينتظرني وكان كذلك نحو الساعة الحادية عشرة أي قبل الظهر بساعة. فتوجهنا معاً إلى البستان المسمى بالبستان السلطاني وبينما نحن نمشي فيه وننظر إلى الشجر الباسقة والزهور المدبجة إذا بالفتاة التي بت عندها تماشي رجلاً يغازلها. فلما رأتني تبسمت وسلمت عليّ. وكأن سلامها لم يسؤ الرجل فإنه نزع لي قبعته فعجبت جداً من عدم غيرته. إذ لو كانت الفتاة عندي لحجبتها عن النور. فذلك كله يسمى في العربية هذراً وهراء وهفتاً وهرجاً وهلجاً وسقطا وهيشا وخطلا واخلاء ولخي وطفانين وهذيانا وثرثرة وفرفرة وحذرمة وهبرمة وهثرمة وخزربة وخطلبة وغيذرة وشمرجة ونفرجة وهمرجة وثغثغة وفقفقة ولقلقة ووقوقة وهتمنة وفي المتعارف عند العامة فشارا وعلكا. إذ لا فائدة فيه لأحد من الناس. بخلاف ما إذا قلت لهم أن الغيساني من الرجال هناك إذا حضر مجلساً فيه نساء لا يغمز إحداهن بعينه ولا يتبظرم ولا يبتهر. ولا يقول لها أنه يزور النساء المحصنات بعلم بعولتهن وبغير علمهم ويأكل عندهن ويشرب. ثم يخلو بهن في مضاجعن ويرجع إلى منزله مسروراً. وكأي من مرة وضع يده في جيبه فوجد فيه كيساً ملآن من الدنانير أو كاغد حوالة على بعض الصيارفة. وإنه إذا مرّ في الاسواق تتهافت على رؤيته البنات من الرواشن والشبابيك والكوى والسهاء والإجلاء. فمنهم من تشير إليه بيدها أو برأسها. ومنهن من تجهله بعينها ثم تضع يدها على قلبها. ومنهن من ترميه بوردة. وأخرى بباقة من المنثور أو برقعة فيها شعر. أو أنه يقول بحضرتهن قد انحلت تكتي أو حكني رفغني لكون حشو سراويلي غليظاً. أو يحك أسته أو يرطل عياره أو يتمطى ويتمتى ويتمطط ويتمدد ويتمطل ويتمتأ ويتمتت ويتمأى ويتنطط ويتمعط ويتمغط ويتبسط ويتبأط. بل إنما يكلمهن متأدباً محتشماً غاضّ الطرف خافض الصوت. ويسأل كبيرتهن عما طالعت يومها ذاك من الأخبار والحكايات النوادر الأدبية وإنه شرع في تأليف كتاب مفيد يشتمل على ذكر آثار الأقدمين وأخبارهم ثم يلقي على صغيرتهن أحجية أدبية ليلهيها بها وبمثل ذلك يدخل مكرماً ويخرج محموداً. وبخلاف ما إذا قلت لهم أيضاً أن التاجر المثري هناك لا يتختم بخواتم الماس والزمرد. ولا يتحلى بسلاسل الذهب. ولا يقتني النادر من الأثاث والماعون والفرش. بل إنما ينفق أمواله في سبيل البر وإغاثة الملهوفين وإمداد الأرامل واليتامى وفي إنشاء المدارس والمستشفيات. وفي تصليح الطرق وتحسين المدينة وإزالة الأوساخ والعفونات منها. وفي أن يربي ولده بالأدب والعلم والفضائل. فترى منهم من سنة اثنتا عشرة سنة يكلمك بما يكلمك به من سنه منا أثنتا عشرة سنة بعد العشرين. وبخلاف ما إذا تفضلت بذكره فقلت أن لكل إنسان عندهم ممن لا يعد من الأغنياء والفقراء خزانة كتب نفيسة في كل فن وعلم. وما من بيت إلا وفيه إضبارة من صحف. وإن الرجل منهم أخبر بالبلاد الأجنبية مناهلها. وإن اكثر فلاحيهم يقرءون ويكتبون ويطالعون الوقائع اليومية ويعرفون الحقوق الرابطة بين المالك والمملوك والحاكم والمحكوم وبين الرجل وامرأته. وإن من هذه الوقائع المطبوعة ما تبلغ عدة نسخه أربعة عشر مليوناً في العام. وما يدفع عليها لخزنة الدولة على طبع إجازتها يبلغ أكثر من خمسين ألف ليرة. وإنها لو عرّبت نسخة واحدة منها لجاءت أكثر من مائتي صفحة. وإن صاحب العائلة منهم إذا جلس صباحاً على المائدة مع زوجته وأولاده يقبل كلا منهم ويسألهم عن صحتهم. ويفيدهم بعض نصائح وتنبيهات تكون لهم إماماً في ذلك اليوم. وإنهم يكلمونه وهم مبتهجون فرحون ويرون حضوره فيهم سلواناً. وإنهم لا يخالفون له أمراً ولا يستثقلون منه تكليفاً. وهم مع ذلك يدلون عليه بالبنوّة ويهابونه للأبوّة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015