كان الخرجي رفيق الفارياق في السفر قد كتب كتاباُ من مصر إلى بعض معارفه بالإسكندرية ليهيئ له نُزلاً. فلما وصلوا إليها أقاموا فيه مدة ينتظرون ورود سفينة النار التي تسافر إلى الجزيرة. وكانوا جميعاً يأكلون على مائدة واحدة ويتفاوضون في المصالح الخرجية وفي السفر وغيره. وكانت زوجة الفارياق لا تدري شيئاً سوى بيت أهلها. ولا تتكلم في أمر إلا فيما جرى لها مع أمها أو لامها مع الخادمة أو لهذه معهما وكانت إذا أخبرت مثلاً بأن الخادمة ذهبت إلى السوق لتشتري شيئاً تخللت كل جملة بضحكة طوياة. فاقتضى لأخبارها من الوقت نحو ما كان اقتضى للخادمة من الذهاب والإياب وسبب ذلك أن النبات في مصر لا يعاشرن أحداً سوى الخوادم وأهل البيت. أما أمهاتهنّ فلا يطالعنهن بشيء من أمور الدنيا مخافة أن تنجلي الغشاوة عن أبصارهن فيعرفن ما يراد منها. فمن ثم كان تحصل معارفهن كلها من الخوادم لا غير ولما كنّ هؤلاء يرين أن أخبار النبات بما يهوين ويملن إليه بالطبع خيراً لهن عظيماً. فإذا رأت إحداهن مثلاً فتى جميلاً بادرت من ساعتها إلى البنت وقالت لها: قد رأيت اليوم يا سيدتي شاباً مليحاً ظريفاً لا يصلح إلا لك. وأنه حين نظرني وقف وشخص أليّ وكأنه يريد أن يكلمني. وأخاله عرف إنك أنت سيدتي. فإذا رأيته المرة الآتية كلمته. وأشباه ذلك عن الكلام مما يجعل البنت ذات ضلع معها إذا غضبت منها الأم. ولا يخفى أن البنات إذا كنّ جاهلات بالقراءة والكتابة وحسن المحاضرة وبآداب المجلس والمائدة وغيرها، فلا بدّ وأن يتعوّضن عن هذا الجهل بمعرفة الحيل والمكايد التي يتخذنها وسيلة لما يرمن. فإن البنت إذا اشتغلت بقراءة فمن من الفنون أو بمطالعة الكتب صرفها ذلك عن استنباط الحيل. فأما إذا لم يكن لهن شغل غير ملازمة البيت وليس فيه غير الخادمة فأنّ أفكارهن وأهواءهنّ كلها تنجمع إلى مركز واحد وهو اتخاذ الخادمة وسيلة لهن وسنداً. فكلامها عندهنّ أصدق من كلام أمهاتهنّ. فالأولى عندي أنا العبد الحقير أن تشغل البنت بإحدى الفنون والعلوم النافعة سواء كان ذلك عقلياً أو يدوياً. ألا ترى أن الأنثى مفطورة على حب الذكر والذكر على الأنثى؟ فجهل البنات بالدنيا غير مانع لهن من معرفة الرجال واستطلاع أحوالهم. بل ربما أفضى بهنّ هذا الجهل إلى التهافت عليهم والانقياد إليهم من دون نظر في العواقب بخلاف ما إذا كن تأدّبن بالمحامد والعلم اللائق بهن فإنهن ح يعرفن ما يعرفن من الرجال عن تبصر وتدبر. وهناك قضية أخرى وهي أن النساء إذا علمن من أنفسهن أنهنّ أكفاء الرجال في الدراية والمعارف تترّسن دونهم بمعارفهنّ وتحصنّ بها عند تطاول الرجال عليهنّ. بل الرجال أنفسهم يشعرون بفضلهنّ فيرتدعون عن أن يهتكوا حجاب التأدب معهنّ. مثال ذلك إذا أجتمع غلام وبنت في خلوة وكان الغلام قد قرأ ودرى والبنت لم تعرف شيئاً غير ذكر اللباس والزينة والخروج إلى البستان. لم يلبث الغلام أن يتعدى طور الأدب معها لاعتقاده أنها لم تخلق في الدنيا إلا لقضاء وطره منها. بخلاف ما رآها ذات رأي رشيد. وقول سديد. وفكرة مصيبة. وفهم للأمور البعيدة والقريبة. وحسن محاضرة وجواب عتيد. ومعارضات ومماتنات. فأنه والحالة هذه يهابها ويحترمها. وليس كلامي هذا مخالفاً لما قلته في إغضاب الشوافن. وإنشاب البراثن. وإنما العبرة باختلاف وسائل العلم. والمراد من هذا الاستطراد كله أن نقول أن زوجة الفارياق وإن يكن قد فاتها كثير من معلومات الرجال والنساء فقد أبدت من المعارضة لأمها عند تصادم مصلحة الزواج بمفسدة خرجية الفارياق ما أفحم المجادل، وأبكم المناضل. لكنها بقيت في غير ذلك جاهلة.

فإن الفارياق لما كان ذات يوم على المائدة أخبره الخرجي بقدوم سفينة النار وحثه على التأهب للسفر. فسمعت بذكر سفينة النار فقالت ما معنى هذا. فقال لها الخرجي هي سفينة ذات ألواح ودُسُر وإنما تسير بقوة بخار النار. قالت وأين النار؟ قال في قمين بها. قالت يا للداهية كيف أسافر في سفينة فيها قمين وأعرض نفسي للنار؟ أليس السفر من هنا إلى الجزيرة يكون في القنج كسفرنا من بولاق؟ قال أن القنج لا تصلح للبحر الكبير. قالت أما أنا فلا أسافر ويسافر من يريد أن يحترق. فترضاها الخرجي وزوجته فأبت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015