فلما سمع الفارياق ذلك زهد في الشعر ورغب عنه إلى حفظ الألفاظ الغربية لكنه لم يلبث أن رجع إلى خلقه الأول. وذلك أن أباه أخذه معه إلى بعض القرى البعيدة ليجبي المال المضروب على سكانها إلى خزنة الحاكم. فأنزله أهلها منزلاً كريماً. وكان بالقرب من منزله جارية بديعة الجمال فجعل الفارياق على صغره ينظر إليها نظر المحب الراني جرياً على عادة الأغرار من العشاق. من أنهم يبتدئون العشق في جاراتهم استخفافاً للطلب واستشفاعاً بالجارية. كما أن عادة الجارات تهنيد جيرانهن وتغميرهم إشارة إلى إنه لا ينبغي البحث عن الطبيب البعيد إذا أمكن التداوي عند القريب. غير أن المحنكين في الحب يبعدون في الطلب ويرودون أنزح منتجع. لأنهم لما جعلوا دأبهم وديدنهم إشباع النفس من هواها كان عندهم السعي في ذلك فرضاً واجباً. ووجدوا في الإبعاد والنصب لذة عظيمة. إذ من فتح فاه رجاء أن تتساقط الأثمار فيع لم يعدّ إلا مع العاجزين. والحاصل أن الفارياق هوى جارته لأنه كان غراً. وإنها هي استهوته وأطعمته لكونها جارة. ولأن منزلته من حيث كونه مع أبيه كانت تميل الناس إليه. غير أن مدة إقامته هناك لم تطل. وأضطر إلى الرجوع مع أبيه وقد بقي كلفاً بالجارية. فلما حان الفراق بكى وتحسر وتنفس الصعداء. ونخره الوجد لأن ينظم قصيدة يعبر بها عن غرامه فقال من جملة أبيات.
أفارقها على رغم وأني ... أعادر عندها والله روحي
وهي أشبه بنفس شعراء عصره الذين يقسمون أيماناً مغلطة بأنهم قد عافوا الطعام والشراب شوقاً وغراماً. وسهروا الليالي الطويلة وجداً وهياماً. وإنهم ناسمون وقد ماتوا وكفنوا وحنطوا ودفنوا. وهم عند ذلك يتلهون بأي لهوة كانت. ثم أنه لما أطلع أبوه على تلك البيات الفراقية لامه عليها ونهاه عن النظم. فكأنما كان قد أغراه به. فإن من طبع الأولاد في الغالب الخلاف لما يريد منهم آباؤهم ثم أنه فصل من تلك القرية حزيناً كئيباً متيماً مفتوناً.
قد كان أبو الفارياق آخذاً في أمور ضيقة المصادر. غير مأمونة العواقب والمصاير. لما فيها من إلقاء البغضة بين الرؤس. وشغْب أهل البلاد ما بين رئيس ومرؤوس. فقد كان ذا ضلع مع حزب من مشايخ الدروز مشهور بالنجدة والبسالة والكرم. غير أنهم كانوا صفر الأيدي والأكياس والصندوق والصوان والهميان والبيوت. ولا يخفى أن الدنيا لما كان شكلها كروياً كانت لا تميل إلى أحد إلا إذا استمالها بالمدوَّر مثلها وهو الدينار. فلا يكاد يتم فيها أمر بدونه. فالسيف والقلم قائمان في خدمته. والعلم والحسن حاشدان إلى طاعته. ومن كان ذا بسطة في الجسم وفضلٍ في المناقب فلا يفيد طوله وطوله بغير الدينار شياً. وهو على صغر حجمه يغلب ما كان كبيراً ثقيلاً من الأوطار ولُبانات النفس. فالوجوه المدوَّرة خاضعة له أيّان برز. والقدود الطويلة منقادة إليه كيفما دار والجباه العريضة الصليتة مكبَّة عليه والصدور الواسعة تضيق لفقده.