لم يكن لصاحبنا الفارياق عند الخرجي من الأثقال إلا جثته فقط. فلذا تأبَّط طنبورة ووضع دواته في حزامه وقال له. قد أعانني الله واراني طريقا غير التي طرقتها لي أنت وحزبك الخرجيون. فأنا اليوم مفارقك لا محالة. قال كيف تفارقني وما أسأت إليك في شيء. قال هذا الطنبور يشهد عليك بأنك سؤتني. قال أن العازف به لا تقبل له شهادة فكيف تصح شهادته هو مع كونه سببا في جرح شهادة صاحبه. قال بل تصح كما صحت شهادة حجر آبائك. وإنه لينطق بمساويك كما نطقت أتان جدك. وبدك حصون عنقاشيتك كما دك المدن برق ربيبك. قال ما هذا الكلام. قال وحي والهام. قال لا باس في تعزف به فقد علمت إن الخادم عن حسد شكاك. قال بل أني عازف به عند من يقولون لي زد ويعاد وأحسنت والله. لا عند عجم لا يذكرون اسم الله إلا في الابتهال. قال قد خلطت واشططت. قال قد فرطت وقسطت. قال انك كنود. قال انك من اليهود ثم ولى عنه وهو سامد الرأس جاحظ العينين من الغيظ.

وسار واكترى محلا آوى فيه الطنبور وتوجه إلى المدح فما استقر به المجلس إلا وورد بشير إليه وبيده رقعة فيها بيتان يراد ترجمتهما. فلما عرضا على مترجمي اللغات العجمية وأديت ترجمتها إلى جهبذ الممدح انتهت النوبة أخيرا إلى الفارياق. فأخذ القلم وكتب:

ركب السريّ اليوم خير جواده ... يا ليته منا امتطى أكتافا

إذ ليس فينا رامح أو رافس ... بل كلنا يغدو به رفافا

فلما قابل الجهبذ هذين البيتين بالأصل وجدهما يشتملان على المعنى اشتمال البطن على الجنين أو الأمعاء على العفج. مع عدم الحشو بالألفاظ التي يستعملها الشعراء غالبا لسد ما في أبياتهم من الخلل. فأعجب بهما جداً وقال. هما حريان بأن يفضلا على الترجمة العجمية. فإني لا أرى فيها إلا معاضلة ألفاظ ولكن لعل هذه عادة القوم فدعهم وعادتهم. غير أنه لما أشتهر البيتان عند أهل النقد اعترض بعض أن قوله رامح أو رافس من الألفاظ المترادفة فتكون الأولى أو الثانية لغواً. فالأولى أن يقال جامح أو رامح وفيه مع ذلك سجع. وأجيب بأن للفظة رامح معاني كثيرة منها الثور له قرنان واسم فاعل من رمح إذا طعن بالرمح أو صار ذا رمح. ورمح البرق لمع ورد بأن الثور ليس له مدخل هنا بقرينه. فإن الناس لا تركب الثيران وإن أشار إليه المتنبي في الغبب. واسم الفاعل بمعنى طاعن لا يناسب المقام. لأن المركوب لا يكون طاعناً.

ثم ورد في اليوم القابل بشير ثان معه رقعة فيها بيتان آخران فقال الفارياق:

قام السري مبكراً لصبوحه ... فارتجت الأرضون من تبكيره

أو ما ترى ذي الشمس من شباكه ... مدّت إليه شعاعها لسروره

فاعترض على البيت الثاني إنه غير لفق للأول. وأجيب أنه متفرغ عليه ومرتبط به. لأن الأرضين لما ارتجت وخشي العالمون سطوته ترضته الشمس بشعاعها. ورد بأن ترضي الشمس كان متراخيا عن ارتجاج الأرضين فلا يفيد. وأجيب بأن الترضي حاصل على أي حال كان. فإن الشمس لا يمكنها أن تطلع قبل وقت الطلوع. وضحك قوم من هذا التعليل.

ثم ورد في اليوم الثالث بشير آخر فقال الفارياق:

نام السريّ مهنئاً بالأمس لم ... يخطر بخاطره الشريف هموم

إن نام نامت أمة الثقلين أو ... أن قام قامت والكري جريم

فأعترض على لفظة الثقلين إنها ثقيلة. وإن أمة حقها أن تكون أمتا.

ورد بأن اللفظة خفيفة ولا عبرة في كونها مشتقة من الثقل.

ثم ورد في اليوم الرابع بشير آخر فقال:

شرب السريّ فحلّ شرب المُسْكر ... فأستغن عن فتوى الفقيه المنكر

وإذا أصر على الخلاف محرّم ... فاعمد إلى حدّ الحسام الأبتر

فاعترض عليه أنه مبالغة قبيحة تفضي إلى الكفر وتعطيل الشرع. وأجيب عنه بأنه طبق الأصل.

ثم ورد في اليوم الخامس بشير آخر فقال:

خرج السرّ مع السرّية ماشيا ... غلسا إلى الحمام كي يتنعما

من كان يدعك مرّة جسميهما ... خَلقُت يداه على المدى أن تلثما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015