وإذا بعد من مدخله إلى البصرة من الشّقّ القصير، جرى منقضّا إلى الصّخور والحجارة، فراسخ وفراسخ، حتّى ينتهي إلينا.
ويدلّ على صلاح مائهم كثرة دورهم، وطول أعمارهم، وحسن عقولهم، ورفق أكفّهم، وحذقهم لجميع الصناعات، وتقدّمهم في ذلك لجميع الناس.
ويستدلّ على كرم طينهم ببياض كيزانهم وعذوبة الماء البائت في قلالهم، وفي لون آجرّهم، كأنّما سبك من محّ بيض. وإذا رأيت بناءهم وبياض الجصّ الأبيض بين الآجرّ والأصفر لم تجد لذلك شبها أقرب من الفضّة بين تضاعيف الذهب.
فإذا كان زمان غلبة ماء البحر فإنّ مستقاهم من العذب الزّلال الصافي، النّمير في الأبدان، على أقلّ من فرسخ، وربّما كان أقلّ من ميل.
ونهر الكوفة الذي يسمّونه إنّما هو شعبة من أنهار الفرات، وربّما جفّ حتّى لا يكون لهم مستقىّ إلّا على رأس فرسخ، وأكثر من ذلك، حتّى يحفروا الآبار في بطون نهرهم، وحتّى يضرّ ذلك بخضرهم وأشجارهم. فلينظروا أيّما أضرّ وأيّما أعيب.
وليس نهر من الأنهار التي تصبّ في دجلة إلّا هو أعظم وأكبر وأعرض من موضع الجسر من نهر الكوفة، وإنّما جسره سبع سفائن، لا تمرّ عليه دابّة لأنها جذوع مقيّدة بلا طين، وما يمشي عليه الماشي إلا بالجهد، فما ظنّك بالحوافر والخفاف والأظلاف؟! وعامّة الكوفة خراب يباب، ومن بات فيها علم أنّه في قرية من القرى.
ورستاق من الرّساتيق، بما يسمع من صياح بنات آوى، وضباح الثّعالب، وأصوات السباع. وإنّما الفرات دمما إلى ما اتّصل به إلى بلاد الرّقّة، وفوق ذلك.
فأمّا نهرهم فالنّيل أكبر منه، وأكثر ماء، وأدوم جرية