وخبّرت أنّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوما ليسلّم عليه، فلم يأذن له حاجبه فانصرف، وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذن له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رقعة فيها:
أراك تراع حين ترى خيالي ... فما هذا يروعك من خيالي
لعلك خائف منّي سؤالا ... ألا فلك الأمان من السّؤال
كفيتك إنّ حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلا بحالي
وإنّ العسر مثل اليسر عندي ... بأيّهما منيت فما أبالي
فلما قرأ يحيى بن خاقان رقعته ووثق بأمانه من السّؤال أذن له، فخرج الحاجب فوجده قد انصرف، ولم يعد إليه، ولا التقيا بعد ذلك.
وجلس الجاحظ يوما في بعض الدوواين، فتأمّل الكتّاب فقال: خلق حلوة، وشمائل معشوقة، وتطرّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزّبد يذهب جفاء، وكنبتة الرّبيع يحرقها الهيف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقة، ولا يدينون بحقيقة؛ أخفر الخلق لأماناتهم؛ وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
ثم وصف أصحاب الصناعات، وذكر تعاطف أهلها على نظرائهم، وتعصّب رجالها على غيرهم فقال:
لا أعلم أهل صناعة إلا وهم يجرون في ذلك إلى غاية محمودة، ويأتون منه آية مذكورة، إلا الكتّاب، فإنّ أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله، ويسترجح رأيه إذا بلغ في نكاية رجل من أهل صناعته.