وأراد به وجه اللَّه سمي زاهدًا، ولو أنه ترك جميع ما في الأرض ولم يرد به وجه اللَّه لا يسمى زاهدًا، ولما كان في ذلك للَّه عابدًا " (?) .
فليكن أخذك ما تأخذه، وتركك ما تتركه للَّه - عز وجل - لا لغيره.
واعلم أن الحكيم إذا تناول أعراض الدنيا جرى مجرى راق حاذق، يتناول حيَّة قد عرف نفعها وضرها، وأمن سمها وشرها، فتحرى بتناولها الوجه الذي ينتفع هو به وينفع غيره، فهو مباح له يتناوله.
وغير الحكيم إذا تناولها فهو كجاهل استحسن الحية واستلان مسها، فظن أنها
مستصلحة، لأن يتقلد بها، فجعلها سخابًا في عنقه، فلدغته وقتلته، وما أحسن ما قال الشاعر في وصفها:
هي دنيا كحية تنفث السم ... وإن كانت المجسة لانت
فكما لا يجوز للجاهل بالرقية غير العارف بنفع الحية أن يقتدي بالراقي في تناوله الحية والتصرف فيها، كذلك لا يجوز للجاهل أن يقتدي بالحكيم في تناول أعراض الدنيا.
وكما أن محال أن يسلك الأعمى طريقًا وعرًا يسلكه البصير من غير قائد " إذ
هو غير آمن من أن يقع في وهده، فكذلك محال أن يسلك الجاهل مستبدًّا برأيه في تناول أعراض الدنيا طريقًا سلكه الحكيم العالم، إذ هو غير آمن من أن يقع في هاوية.
وأيضًا فالدنيا غانية رعناء كما قال:
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري أفي الغانيات تحسب أم لا
وكما أن الغانية لا يجوز أن يدخل عليها ويخلو بها من الرجال إلَّا من كان
مجبوبًا يؤمن عليها، كذلك الدنيا لا يجوز أن يتمكن منها إلَّا المقطوع عنها بالعفة
والزهد، لئلَّا تغره، وذلك كأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - قال: " يا حمراء، يا بيضاء، احمري وابيضي، وغري غيري، هذا جنائي وجناؤه فيه، إذ كل جان يده إلى فيه ".