ولأنه كما يقبح أن يشتغل الإنسان بأمر بدنه ودنياه، لأنه يصير مضاد اللَّه في إبطال وتضييع أحد جزئيه المركب عليه، وكذلك يقبح أن يضيع الجزء الآخر الذي هو بدنه ودنياه، لأنه يصير مضاد اللَّه تعالى في إبطال ما أوجده وأتقنه.
فإن قيل: فقد قيل: الناس ثلاثة:
رجل شغله معاده عن معاشه وتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه
عن معاده وتلك درجة الهالكين، ورجل مشتغل بهما وتلك درجة المخاطرين. قال: وقد علم أن الفائز أحسن حالا من المخاطر.
قيل له: إن المنازل الرفيعة لا تنفك عن المخاطرة، ولم يقصد هذا القائل بذلك إلى أن يفضل الفائز، وإنما خوف أن يترشح لخلافة اللَّه من هو قاصر عنها، ويقوي ذلك ما روي أن بعض أولاد الملوك ممن تقوى في العلم والحكمة اعتزل الملك وزهد في الدنيا، فكتب إليه بعض الملوك قد اعتزلت ما نحن فيه فإن علمت أن ما اخترته من ذلك أفضل فعرفنا لنذر ما نحن فيه، ولا تحسبن أني أقبل منك قولًا بلا حجة.
فكتب إليه: اعلم أنا عبيد لملك رحيم، بعثنا إلى حرب عدو، وعرفنا أن المقصد من ذلك قهره أو السلامة منه، فلما قربوا من الزحف صاروا فزقًا ثلاثة:
متحرزًا: طلب السلامة منه فاعتزل، فاكتسب ترك الملامة، وإن لم يكتسب
المحمدة.
ومتهورًا: أقدم على غير بصيرة، فجرحه العدو وقهره، فاستجلب بذلك سخط ربه.
وشجاعًا: أقدم على بصيرة، فقاتل وأبلى واجتهد فهو الفائز التام الفوز.
وأنا لما وجدتني ضعيفًا رضيت بأدنى الهمتين وأدون المنزلتين، فكن أنت أيها الملك من أفضل الطوائف تكن أكرمهم عند اللَّه والسلام.
الاعتبار في تناول الدنيا والاستكثار منها أو الاستقلال والزهد فيها أو الرغبة، ليس بتناول القليل والكثير، بل بتناولها من حيث ما يجب، ووضعها كما يجب. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: " لو أن رجلًا أخذ جميع ما في الأرض