وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها ".
الناس في ذلك على ثلاثة أضرب:
صنف: هم المنهمكون في الدنيا بلا التفات منهم إلى العقبى، وهم المسمون عبدة الطاغوت، وشر الدواب، ونحوهما من الأسماء.
وصنف: مخالفون لهم غاية المخالفة، يراعون العقبى من غير التفات منهم إلى
مصالح الدنيا.
وصنف: متوسط بينهما قد وفوا الدارين حقهما.
وهذا الصنف هم الأفضلون عند الحكماء، لأن بهم قوام أسباب الدنيا والآخرة، ومنهم عامة الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، لأن اللَّه تعالى بعثهم لإقامة مصالح المعاد والمعاش، ولأن أمورهم مبنية على الاعتدال الذي هو أشرف الأحوال، وأجدر أن يكون ثلاثتهم داخلين في قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) .
فالمراعي للدنيا والآخرة على ما يحسن وكما يحسن هو من السابقين، وقد جعل قوم السابقين النساك الذين رفضوا الدنيا بالكلية محتجين بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
وقد خفي على هذا القائل أن أعظم عبادة اللَّه تعالى
ما يكون عائدًا بمصالح عباده، وقد روى ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الخلق كلهم عيال الله فأحب الناس إليه أنفعهم لعياله ".