هناك على ربى لبنان تصارع الداء بجودة الهواء إلى أن دخل فصل الشتاء فقال الأطباء: قد أزف الرحيل ومصر لمن كان مثلها خير دواء, فرجعت إلى مصر ومضت إلى حلوان وعادت على القاهرة وامتحنت كل علاج قديم وحديث أشاربه الأطباء, وكلهم من صفوة المعارف وأخلص الأصدقاء لها ولكن ماذا ينفع الدواء والداء عياء.

ولم يذهب المرض الطويل والألم الشديد بشيء من بشاشة وجهها ولا من طلاوة حديثها ولا من حصافة رأيها فكانت تبش بوجه العواد مهما كانت آلامها قوية وتسامرهم وتطايبهم وترتئي الآراء السديدة وتقص الأحاديث المفيدة, وهي عارفة بسير مرضها وبأن الشفاء فيه نادر, ولما قطعت الرجاء من الحياة كاشفت ذويها فأرادوا أن يقووا آمالها فقالت: إليكم عن المحال فقد أزف الرحيل وستحضرني الوفاة هذه الليلة ونادت زوجها وأخاها وكل واحد من أصدقائها باسمه وتكلمت معهم كلاماً يلين له الجماد, ويفتت الأكباد, ثم أغمضت جفنيها وأسلمت الروح في الساعة الأولى من يوم 22 آذار (مارس) سنة 1306 هـ في غرة فصل الربيع وهي في غرة ربيع الحياة.

ومن آثارها رسالة بعثت بها إلى جمعية السيدات اللواتي نلن الشهادة المدرسية في مدرسة البنات السورية في بيروت وذلك في شهر نيسان (أبريل) سنة 1887 م وهي:

"إلى حضرة الرئيسة المحترمة والأعضاء المكرمات بعد التحية أقول: إني لو خيرت لاخترت الحضور بينكن والتمتع بمجالستكن, واجتناء لذيذ أحاديثكن على المكاتبة وتبادل الأشواق بالحبر والقرطاس, ولكن هذا نصيبنا فقد قسم لنا أن نترك الوطن العزيز وأن نفارق صاحبات حبيبات, وداراً ضمتنا جميعاً فقضينا فيها أوقات أنس من أظرف الأوقات, وتعلقت قلوبنا بها فصارت تحن إليها وتتحسر عليها ألا وهي المدرسة التي أنتن مجتمعات فيها الآن والتي تغذينا منها بألبان المعارف والعلوم. لا ريب عندي أن كلاً منكن تذكر الآن تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها معاً كالأخوات, بنات العائلة الواحدة, مشمولات بنظر اللواتي كن يسهرن علينا سهر الأمهات على البنات ونحن نرتع في نعيم الطهر والصبا نملأ منه صافي كأس الحياة لا هم لنا إلا العلوم ولا غم إلا عدم حفظ الدروس. أما الآن فقد تبدلت تلك الأحوال وتشتت عملنا في كل الجهات حتى صار يصعب علينا الاجتماع جميعاً في محل واحد ومكان كما هو مقتضى جمعيتنا هذه وقد وصلت دعوتكن إلي وأنا بعيدة عنكن غير قادرة على الاجتماع معكن وقد قيل: إن الطاعة خير من الذبيحة فلذلك رأيت أن أكتب إليكن ببضع ما شاهدته بعد اجتماعنا الأخير إجابة لطلبكن في الدعوة راجية منكن المعذرة على إشغال وقتكن بمطالعته لقلة ما تضمن من الفوائد فأقول: فارقت بيروت في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1885 م مع رفيقتي الصادقة الوداد السيدة ياقوت صروف قاصدين القاهرة محل إقامتنا الآن فمررنا بمدن رأيت فيها جماعة من بنات مدرستنا اللواتي سبقننا إلى هذه البلاد, ثم ركبنا القطار وسرنا أسرع من الطير في تلك المركبات العجيبة التي أزالت عناء الأسفار وقربت ما بعد من الديار فقطعنا في نحو ساعات ما يقطع عندنا في أسبوع من الزمان, ولما دخلنا القاهرة وجدناها مدينة كبيرة متسعة الأزقة والشوارع تختلف عن بيروت اختلافاً عظيماً, ولكن لم تطل إقامتي فيها حتى صرت أشعر بالوحشة العظيمة لجبال لبنان التي حوت بيروت في كنفها والبحر المتوسط المنبسط أمامها كالبساط الأزرق في رواق أجمل القصور, هذا ومن يسمع عن القاهرة أو يقرأ كلام الكتاب فيها يتوهم أنها هي الفسطا المدينة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015