يذهب سدى ولكنه تركها تسعى لأنه قال في نفسه لو تركتني إلى التقادير بدون أن تستعمل كل الوسائط الممكنة لنجاتي لما وجدت إلى الصبر عني سبيلا, فانتجعت كل روض وألقت دلوها في كل حوض, ولكنها عادت "بخفي حنين" لأنها لم تجد للقضاء مردا وجعلت تشدد عزائم زوجها وكان لسان حالها يقول:
جانب السلطان واحذر بطشه ... لا تعاند من إذا قال فعل
ثم ودعته الوداع الأخير فودعها وهو يقول: إنني أودع الحياة طيب النفس قرير العين لأنني تركت أولادا لا يفقدون شيئا بفقدي وزوجة عفيفة فاضلة فيها الكفاية لأن تدبر أمورها وأمور أولادها على أتم المراد قد وعدتني أنها تقيني بنفسها من أجل أولادها, وهذا حسبي ولما قضى عليه أرسل الملك يخبرها أنه غير قاصد أن ينتفع بموت زوجها فيبقى لها لأولادها كل مقتنياته فرأت أن حبها لأولادها يدعو إلى شكره ولو مكرهة فأرسلت إليه كتابا تشكره به وكانت من فريدات عصرها في الكتابة والإنشاء.
ثم انتقلت بأولادها إلى الريف وأطلقت العنان للزفرات والعبرات التي كانت قد حجبتها مخافة شماتة الأعداء, وكتبت في ذلك الحين إلى أحد القسوس الفضلاء تقول له: أنت تعرفنا تماما فلا تلمني على الحزن ولو أفرط نعم أن كثيرات أصبن بما أصبت ولكن أين فقيدهن من فقيدي حتى يتجدد حزنهن كما يتجدد حزني, وكتبت بعد ذلك تقول: اللهم ارني مقاصد عنايتك فيما ابتليتني به لكي لا أسقط تحت قتل كأبتي إني أستحق هذا القصاص ولا أشكو منه ولكن قلبي جزين وقد عزت السلوى لأن رفيق الحياة وقسيم أفراحي وأحزاني ليس معي أواه أن نفسي تتوق إلى مسامرته ومساكنته ومواكلته, قد صارت الحياة علي حملا ثقيلا, ولكن لا بد من الصبر على مضض الأيام والترفع فوق أفراح الدهر وأحزانه.
ثم دالت تلك الدولة وصار الملك إلى الملك الذي كان زوجها من حزبه فغمر حماها وابنها بالأنعام تعويضا لهما عما فقداه بفقد زوجها ولكن ابنها لم يعش طويلا حتى يتمتع بهذا الإنعام لأن الجدري وافاه وهو في الثلاثين من عمره, وقصف غصن شبابه وعاشت بعد ذلك سنين كثيرة وماتت عن سبع وثمانين من العمر.
وقد اجتمع في هذه المرأة الفاضلة لطف النساء وصبرهن وفطنتهن وهمة الرجال وحكمتهم وإقدامهم, وعاشت وماتت طاهرة السيرة والسريرة. ولها رسائل كثيرة تحلها محلاً رفيعاً بين مشاهير الكتبة. انتهى.