عليه كدر عظيم وعرف في نفسه الداخل إلى ابنته ليس هو إلا الملك بعينه، ولكن لم يطلع المركيس على ذلك وإنما عمل بعكس ذلك على تهدئة جأشه وتسكين روعه وإقناعه بأن ما سمعه ليس هو بأمر واقعي وإنما هو خيال يزور صاحب الغيرة من العشاق.
فإذا رأوا غير شيء ظنوه شيئا، وأكد له بأن قلق ابنته لم ينشأ عن خوف وخجل خامر فؤادها بتزويجها من رجل لم يكن لها معرفة سابقة به فهي تبكي كمثل ما يبكي غيرها من بنات الخدور من الأشراف اللواتي لا تميل قلوبهن إلى رجالهن إلا بعد المؤالفة الطويلة، ثم إنه حض على حسن الظن بها وأن يرجع إليها وينفي ما أتاه من الأوهام والأفكار، فلم يجبه المركيس بشيء على ذلك لأحد سببين فإما أن يكون اقتنع بأن ما سمعه وشعر به لم يكن إلا وهما تراءى له على حين كان باله قلقا، وإما أن يكون أضرب عن الرد على (بهرم) على حين لا يحصل له من إقناعه بكلامه فائدة، فعاد إلى سريره طلبا لإراحة نفسه بالنوم بعد شدة ما قاساه. هذا ما كان من أمره.
أما ضياء فلما سمعت وطء الأقدام في الغرفة ومناداة الزائر إياها عرفت أنه الملك نفسه فتعجبت منه غاية العجب لما كان من أمره أن يجتمع بها ويجلس إليها على حين وعد (سلطانة) بأن يتزوج بها ويجالسها ويلبسها تاج الملك، فداخل قلبها من مرامه هذا غيظ شديد لأنها حسبت دخوله عليها سرا في الليل إهانة أخرى تتهم شرفها إلى آخر ما فكرت في نفسها من سوء الظنون.
وأما الملك بعد أن انصرفت ضياء من حضرته يوم جلوسه على الملك وهي تظن به أنه أعظم الناس خيانة هام قبله بحبها أكثر من الأيام السالفة ورام أن يجتمع بها ليفصح لها عما خبأه في ضميره وأخذ في الحيل السياسية لأجل التمكن من الاقتران بها، غير أن اشتغاله في تلك الأيام ووفود الأمراء عليه لتهنئته لم يترك له فرصة للمسير إلى قصرها قبل آخر الليل، فدخل البستان وفتح بابا سريا من القصر بمفتاح كان لا يزال في جيبه، ثم طلع إلى المقصورة التي ربي فيها ودخل مقصورة ضياء من الباب الذي فتحه في الحائط.
فلما رأى عندها رجلا وقد لطم سيفه سيفه تعجب غاية العجب من ذلك كأنه لم يكن يعلم بتزويجها من المركيس، وكاد أن يعرفه نفسه في ذلك الوقت ويأمر لحينه بقتل الشقي الذي تطاول عليه برفع السيف لولا أن حبه لضياء منعه صونا لها، وأسف لوقوع هذا الأمر.
وقد عزم على العودة من الغد ليرى ما كان من هذا الرجل من إهانة شرفه وعرض نفسه للتهلكة وذلل عشقه وغرامه، فلم ير لذلك أسهل من الحيلة بالخروج إلى الصيد، فلما طلع النهار أمر جنده وأتباعه بأن يجهزوا له مركبه لذلك فركب إلى غاية القصد وبدأ في مزاولة القنص باجتهاد حتى لا يبقى لجماعته مجال لأن يفطنوا لمقصده من الحيلة.
فلما اشتغل كلهم بالصيد ولحقوا الكلاب التي تطارد الغزلان والمها ركب جواده وسار إلى موضع القصر وهو لم يضل في مسيره لأنه كان يعرف الطرق والمنافذ إليه ولم يسعه اصطباره إلا أنه يركض فرسه ملء مروجه، فلما قطع المسافة التي كانت بينه وبين موضوع عشقه وآماله وهو يفكر في الحيلة التي يمدها للاجتماع بها سرا رأى تحت شجرة على باب القصر امرأتين تتحدثان فخفقت أحشاؤه لعلمه بأنهما من نساء القصر ثم ما لبثنا أن التفتتا إليه لسماعهما طرق أرجل الفرس فتحققهما وإذا هما ضياء وقهرمانة لها أمينة قد صحبتها لتبث إليها شكواها وأحزانها، فترجل عن جواده وقابلها بالتحية والإكرام فإذا بها متقطعة من الحزن فرق قلبه عليها.
وقال لها: يا سيدتي، كفكفي دمعك وأذهبي الحزن عنك فإن ظواهر أمري وإن لم تقم ببرائتي لديك ففي نفسي عزم على الاقتران بك لا أنفك عنه ولو خسرت النعمة التي أتقلب فيها، فلما سمعت كلامه خنقتها العبرة ولم يأتها الكلام فقال لها: لم تتمادين في الأحزان يا سيدتي ولا تعتنين بملك يبيع ملكه حتى