على الأقل قد انتقمت من نفسي لأجل أنها أشغلت قلبها بحب رجل خائن مثلك) .
قالت هذا الكلام والدمع يجري من عينها وهي في حالة من القنوط لم تنفك عنها النهار ولا الليل بطوله، فلما أصبحت دخل عليها أبوها وعلم منها أنها عازمة على الاقتران بالمركيس، فاغتنم هذه الفرصة أن جاء به وزوجها منه سرا في كنيسة القصر، فكانت حالتها في ذلك اليوم تستبكي الحجر رحمة عليها إذ لم يكفها مصابا بأنها فقدت الملك وجفاها حبيبها الرفيق، وتزوجت برجل لا تميل إليه حتى إنه وجب عليها أن تكتم حزنها في قلبها بحضرة هذا الزوج الذي هام بحسنها وجمالها، ومازال جاثيا على الأرض بين قدميها إلى آخر النهار، غير تارك لها فرصة تبكي فيها على انفراد ما حاق بها من البلاء.
فلما أقبل الليل ودخلت عليها قهرمانتها وزينتها لدخوله عليها خامرها يأس عظيم لم يسعها كتمانه بحضوره، فتقرب منها بتذلل وسألها عن سبب كدرها فحاولت إخفاء الأمر عليه وقالت: إن نفسها منقبضة في تلك الليلة ليس غير، فزم عليها أن ترقد في السرير، فأبت إلا الجلوس مكانها على المقعد وأخذت تفيض من عينيها دموعا كثيرة فتعجب لذلك عجبا شديدا وأتاه أن من جفائها إياه لأمرا يخون عشقه لها ولا يليق بشرفه وعرضه فبات جزعا قلقا وأعمل على أن يبقى اضطرابه كامنا في صدره.
فقال: يا سيدتي، قومي إلى مضجعك وخذي راحة لجسمك والرياضة لعقلك، وإن كنت ترومين آمر القهرمانات بالقيام بين يديك لخدمتك فعلت ذلك إكراما لخاطرك.
فقالت - وقد اطمأنت نفسها وذهب خوفها ووجلها -: إني لا أرى لزوما لقيامهن بين يدي، ولكن أرقد في السرير حتى يغلبني النعاس ويروق ما بي من القلق. وكان المركيس في تلك الليلة متسهدا من شدة جزعه وهو يفكر في نفسه لما كان من ضياء بأن حبيبا قد هام قلبها بحبه، ولكن من هذا الحبيب أمن أمثاله، أو ممن هو أخفض من مراتب الدولة، فلم يعلم ذلك ولكنه رأى نفسه بهذا الزواج أشقى العالمين، ومازال يردد هذه الأفكار في نفسه إلى هدوّ الليل الآخر وإذا بقرقعة خفيفة قد طرقت أذنه وتلاها وطء أقدام خفيفة في المقصورة فظن بادئ الأمر أن ذلك يتراءى له بالوهم لعلمه بأنه كان قد غلق الباب وقفله بيده بعد انصراف القهرمانات، غير أنه أزاح ستار السرير ليرى بنفسه ما كان من هذا الأمر.
فإذا بالمقصورة سودها الظلام لأن السرج الذي كان موقدا قد انطفأ فبقي في موضعه مكتئبا وإذا بصوت منخفض حنون ينادي: يا ضياء فوثب من فراشه مذعورا وبادر إلى سيفه وتقدم إلى جهة الموضع الذي منه سمع الصوت ليمزق صدر الحسود الذي أراد أن يفوز باللذة على مشهد منه فإذا بسيف صلت قد لطم سيفه، فوثب فشعر ما بين ظلام الليل برجل يهرب من وجهه، فلحقه من موضع فلم يقف له على أثر فتعجب ووقف مكانه صاغيا فلم يسمع حركة البتة، فتراجع وجحد موضعه فظن أن ذلك سحر مبين.
ثم تقدم إلى جهة الباب فوجده مقفولا فزاد عجبه وظن أن غريمه يكون مختبئا في موضع من المقصورة ففتحه ووقف فيه لئلا يفر الغريم من وجهه وصاح بخدمه وغلمانه لملاقاته، فبادر جماعة منهم بالسرج والشموع في أيديهم، فتناول شمعة منورة وقلب المقصورة بالبحث والتفتيش وسيفه في يده صلت فلم ير أحدا، ولا رأى منفذا فيه للدخول ولا للخروج، فتحير تحيرا شديدا وكان يغيب عقله عن الصواب، فرام أن يسأل ضياء عن الأمر ففكر أنها وإن عرفت شيئا من ذلك فهي تخفي عليه أمره، فعزم على أن يفاوض أباها في هذا الشأن وسار إليه وقد صرف الغلمان إلى مواضعهم بقوله إنه سمع قرقعة على حين لا شيء من ذلك.
فلما صار على مقربة من غرفة الوزير رآه مقبلا من الباب ليرى ما كان من أمر الضجة والصراخ فأخبره بالقضية فورا وهو لا يعقل لشدة اضطرابه، فلما سمع كلامه تعجب غاية العجب واستحوذ