تحسم النوازل كأنها سكاكين في مفاصل الخطوب، ويكون لكلامك نفوذ كأبلغ مما كان لأيام عمي رحمه الله، ثم انحنى على مائدة هناك ووضع ختمه على قرطاس وسلمه إلى ضياء، وقال لها: يا سيدتي، خذي هذا القرطاس واكتبي فيه ما أردت فوق الختم وهو يدلك على أني راض بكل ما تشائين وأن عشقك قد بلغ مني مبلغا لا سبيل إلى التعبير عنه بالقلم ولا باللسان، فلما سمع (فرنان) كلامه أخذه العجب منه لغفلته عن إدراك عشقهما قبل ذلك، وسلمت ابنته القرطاس إليه وقد قالت للملك - وفي وجنتيها احمرار الخجل -: يا سيدي إني أقتبل النعمة التي يمطر جلالة الملك علي خبرها بشكر لا مزيد عليه ولكن لي أب لا أعزم على أمر إلا بمشيئته، فأنا أسلم الرقعة إليه وهو يكتب فيها ما يشاء بحكمته ودرايته فقال الوزير للملك: يا سيدي إني أكتب في هذه الرقعة ما تسومني شكرا عليه فيما بعد.
فقال له: اكتب بها ما أردت أيها الحكيم الفاضل فإنك لطيف النظر، ولكن أسرع الآن إلى (بلرمة) وخذ مبايعة الجند والأمراء وبلغهم سلامي وقل لهم: إني أسير إليهم بعد وصولك بقليل فما كاد يتم كلامه أن انصرف الوزير وابنته وركبا العربة إلى (بلرمة) ، وهي تبعد أميالا قليلة عن موضع القصر.
وأما الملك (ألفونس) فإنه بعد انصراف الوزير بساعة ركب جواده وقصد مدينة (بلرمة) لينزل من قصر السلطنة وباله مشغول بالعش، فلما رآه الناس ارتفع فيهم الدعاء له وأصوات الفرح والسرور حتى دخل مجلسه في القصر، فرأى (سلطانة) بنت (بوران) عمته في ثياب السواد، فعزاها وعزته، ثم ارتفع على السرير وجلست هي على كرسي دونه وقد ظهر أنها تحبه في قلبها مع أن العداوة بين أمها وأبيه كانت من أشد ما يكون، ثم جلس الأمراء والقواد على كراسي ووسائد زينت لهم، وقام فيهم (فرنان) الوزير خطيبا، وتلا وصية المهرجان إليهم.
يقول: في بعضها إنه لما لم يرزقني الله ولدا يلي الملك بعدي فإني أجعله أربا إلى (ألفونس) ابن أخي على شرط أن يقترن بسلطانة ابنة أختي فإن أبى ذلك فيصير الملك إلى أخيه (دون لزريف) على الشرط عينه وهذه وصيتي إلى الأمراء والقواد.
فلما وعى (ألفونس) ما في وصية عمه كاد ينخلع قلبه من الغم والهم والكدر، وما لبث الوزير أن أتبع تلاوة الوصية بقوله للحضور: أيها الأمراء إنه لما بلغت جلالة الملك مرام عمه المهرجان من زف (سلطانة) إليه لم يتردد ساعة في قبول ذلك، فازداد غم (ألفونس) حتى بان الكدر في وجهه وقال للوزير: ولكن اذكر يا (بهرام) القرطاس الذي سلمته إلى ابنتك ضياء فأجابه الوزير - وقد رفعه على مشهد من الأمراء -: ما كتب في هذا القرطاس: هو وعدك بأن تقترن بابنة عمتك وتتم كل ما ذكر في وصية عمك، ثم فتحه وقرأه على مسمع من الأمراء والأعيان فسروا من حسن عواطف الملك، وارتفعت أصواتهم بالدعاء له وهم غافلون عما كان في نفسه حتى إذا تفرق جمعهم إلا قليلا وتباعدت (سلطانة) التي ما فتئت تبث إليه هيامها به، وهو لا يعقل من شدة اضطراب عقله قال للوزير (فرنان) : أنت خنتني وحق السماء وإنما كان الواجب عليك أن تكتب في القرطاس ما كان من الاتفاق والعهود بيني وبين ابنتك.
فقال له الوزير: يا سيدي تمعن في الأمر فإن أنت خالفت وصية عمك المهرجان فقد بخست نفسك حقها وأضعت الملك من بين يديك قال هذا وابتعد عنه حتى لا يسمع جوابه فغضب الملك غضبا شديدا وبات بين اعتمادين في نفسه.
فإما أن يعتزل عن الملك، وإما أن يقترن بابنة عمته ففكر في ذلك برهة فوقع في ذهنه أن زفافه بابنة عمته لا يكون إلا ببراءة من لدن البابا تأتي بعد شهر أو شهرين وأنه في تلك المدة يولي المراتب العظيمة من يأمن خيانته من الأمراء والقواد حتى إذا نفذ الوصية لم يتفقوا على خلعه وبات أمر الأمة في يده.
فلما وقع هذا الرأي في نفسه سكن روعه واطمأنت نفسه وحقق