في الإمكان أصح مما كان، بحيث إذا أغلق لم يفطن الرائي أن في ذلك الجدار بابا لكثرة ما هناك من النقوش والتخاريم.

فلما حقق (ألفونس) بغيته فيما أراد من وصوله إليها سرا أصبح يدخل عليها في أكثر الأيام ويبيت معها في حديث وتقبيل وملاعبة ليس غير لأنها شرطت عليه حين أذنت له بفتح الحائط أنه يدخل عليها لمبادلة الحديث بينهما فقط لا لشيء غير ذلك.

فلما دخلي عليها في بعض الأيام رآها ضيقة الصدر حزينة النفس فانكمش لذلك وسأل قهرمانتها عن الأمر الذي أوجب كدرها وكآبتها فقالت: وصل إليها يا سيدي أن الملك عمك انطرح على فراش الموت فقدرت أنك إذا توسدت الملك وصار إليك أمر الأمة فقد أشغلك العز والنعيم وأسكرتك العظمة والقدرة عن التفطن لها والقيام بعهودك إليها فلم يدعها تختم كلامها حتى دخل على بنت الوزير وقال لها: يا سيدتي، كأني أرى الكدر مرسوما على وجهك الفتان، فبالله إلا صدقتيني.

فلما رأته هيج الشوق بكاها، واغرورقت عيناها بالدموع، وكاد لا يأتيها الكلام، فسكتت قليلا، ثم قالت: لا شيء يوجب لي الكدر غير أني يا سيد وأمير الناس عمك المهرجان قد احتضرته الوفاة فإذا تبوأت الأريكة موضعه أشغلك أمر الأمة دوني، وصرفك اقتدارك عن النظر إلي لأني سمعت عن الأمراء أنهم إذا راموا حال ولاية عهدهم أشياء تطلبها أنفسهم ونالوها فإنهم يغضون عنها بعد جلوسهم على أريكة الملك وإني لو أمنت من وجهتك على وفائك بحق الوداد، فلم آمن من وجهة طالعي أن لا يخون سعادتي بك.

فلما سمع كلامها كادت تنفطر مرارته رحمة عليها وقال لها: يا سيدة الملاح إن تمكن اليأس منك على غير موجب لمما يفتت قلبي شفقة عليك وإن تصورك الخيانة في بصرف قلبي عن حبك لمما يزيل ذل العشق ويجرح خاطري، ولكن رجائي إليك أن تصرفي هذا الحزن وتعلمي أن سعادتي وفخري لا يتمان إلا بك. فقالت: أيها الأمير لا يبعد أنك إذا علوت السرير طلب إليك الوزراء والأشراف أن تتأهل بأميرة من بنات الملوك لتزيد عظمتك افتخارا ومجدا، ربما خانني دهري بأن يجعلك مجيبا لمسائلهم، فانتفض عرق الحدة بين عينيه وقال: لم تجلبين الكدر والقنوط لنفسك يا حبيبتي على غير طائل، فإني أقسم بالله إني إذا وليت الملك تزوجت بك على محضر من الأمراء والملوك.

فلما سمعت ضياء قسمه هدأ روعها واطمأنت نفسها وأخذا يتجاذبان أذيال المذاكرة عن مرض الملك المهرجان، وكان يظهر من كلام (ألفونس) أنه تكدر لوفاة عمه مع أن أميرا غيره كان يسر من وفاة ملك يورثه ملك الدولة، ولاسيما إذا كان عليه ثأر فباتت ضياء بعد قسم (ألفونس) بوفاء عهده إليها في راحة وأمن ودعة، وهي لم تعلم بالخطب الذي كان يحدق بها من جهة أخرى فإن وزير الدولة الثاني المعروف بالمركيس قد كان رآها في بعض الأيام ففتن جمالها عقله وخطبها من أبيها فوعده بأن يزوجها إليه، ثم اتفق أن الملك مرض فأخر الزفاف إلى أجل مسمى، وأمر الوزير (فرنان) جماعته أن لا يعلموا (ألفونس) ولا ابنته بشيء من ذلك الأمر.

فلما كان (ألفونس) صباح يوم جاءه الوزير ومعه ابنته ضياء، وقال له بعد السلام: يا سيدي إن الخبر الذي حملته إليك يكدر صفو خاطرك، ولكن البشارة التي أتبعه بها تسر خاطرك، وترفع مقامك.

فاعلم أيدك الله أن المهرجان عمك قد مات وأوصى إليك بالولاية بعده، فهنأته بالعطية وخفق لواء سعدك على أنحاء بلادك منصورا وأن الأشراف والأمراء والقواد قد اجتمعوا ببابك ليقدموا لجلالتك خالص التهنئة بما أعطاك الله، فلما سمع كلامه لم يخامر التعجب نفسه لأنه كان عالما بمرض عمه ودنو أجله من قبل ذلك بشهر وأيام وإنما صار صدره بعد سماع كلامه ميدانا تتسابق فيه الأفكار وتضطرب فيه الخواطر ففكر ساعة ثم قال: يا أبت، إني أتخذك وزيرا لي أعتمد في الأمر على حسن آرائك المباركة لأني رأيتها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015