مرتين، أولئك الخطباء الذين يقدرون للخطبة حق قدرها، الذين يعدون خطبة الجمعة بعد خطبة الجمعة، أما أولئك الذين لا يقدرون أنفسهم حق قدرها، ولا يقدرون جمهورهم حق قدره لا يبالون بالخطبة، ولا بالإعداد لها وينشغلون طول الأسبوع عن تحضيرها حتى إذا كان صباح الجمعة جلسوا يفكرون ماذا يقولون، فلا يهتدون سبيلًا، فأخيرًا يصعدون المنبر لتأدية الواجب حتى لا يصلي الناس ظهرًا.
أولئك الخطباء يجب عليهم أن يتقوا الله -تبارك وتعالى- في أنفسهم، وأن يتقوا الله في المنبر الذي يرتقونه وأن يتقوا الله في الجمهور الذي يواجهونه، ولنعد هذه الكلمة عن عبد الملك بن مروان قال: "شيبني ارتقاء المنابر، وتوقع اللحن"، خوف أن يلحن في خطبته فيفتضح بين جمهوره، وقيل له يومًا: قد عجل الشيب إليك، فقال: "كيف لا يعجل، وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة مرة أو مرتين".
ومن هنا يظهر الفرق واضحًا بين الخطبة والمقالة وبين الخطيب، وكاتب المقالة من حيث كان الخطيب أكبر مسئولية، والخطابة أشق تناولًا، والبصراء بأساليب البيان يقررون أن العمل الفني لا بد أن يتخطى مراحل ثلاث قبل أن يكتمل هي الإيجاد، والتنسيق، والتعبير يعنون بذلك استنباط المعاني، ثم ترتيبها، والتنسيق بينها لتصير وحدة متكاملة ثم يجيء التعبير عنها كمرحلة أخيرة.
وكاتب المقال والخطيب يشتركان في المرحلة الأولى والثانية ثم يختلف بهما الطريق في لون التعبير، فالخطيب يختار ألفاظه وتراكيبه على نحو جميل أخاذ يساعده على تحويل مستمع من موقف إلى موقف وينتقل به من الإقناع إلى الاستمالة، ثم يلف الجميع شعور واحد يحقق في النهاية الأثر المطلوب، وربما