يحدثه غير هذا الخطيب الذي يراه، فلا رابطة بين الخطيب وبين المستمع، وإذا دعت الضرورة للاختصار فلن يستطيع كاتب الورقة أن يختصر؛ لأنه مرتبط بالنص المكتوب.
وقد تكون الضرورة مما لا يمكن التساهل فيه وحينئذٍ تزيد الهوة اتساعًا، وقد تصل هذه الظروف الطارئة إلى حد تغيير موضوع الخطبة بكامله، ولا يستطيع الخطيب أن يغير الموضوع؛ لأنه ليس له إلا ما كتبه.
فنصيحتنا للخطباء أن يهتموا بتحضير الخطبة، ولا مانع من كتابتها كتابة عناصر أو كتابتها كاملة، ولكن لا بد من ترديدها وحفظها حتى يرتجلها على المنبر ولا يقرأها من الخطبة. وإذا كنا قد أوجبنا التحضير والتهيئة، فليس معنى ذلك أن الخطيب لا يحتاج إلى الارتجال، إذ القدرة على الارتجال ألزم الصفات للخطيب، بل لا يعد الخطيب خطيبًا ممتازًا إلا إذا كان من القادرين على الارتجال.
إن حاجة الخطيب للارتجال واضح، فقد يحضر الخطيب، ثم يرى من وجوه السامعين وحالهم ما يحمله على اتجاه آخر، فإن لم تسعفه بديهة حاضرة وخاطر سريع ومران على الارتجال طويل ضاع هو وما يدعو إليه، واتقاه الناس بالبكاء والتصدية والصفير والسخرية والاستهزاء في كل مكان. وقد يخطب الخطيب فيعترض عليه بعض الناس في خطبته، فإن لم تكن له بديهة حاضرة ترد الاعتراض وتقرعه بالحجة القوية ذهبت الخطبة وآثارها.
وقد كان العرب أيام ازدهار الخطابة فيهم من أقوى الناس على الارتجال. قال الجاحظ في وصفهم: "وكل شيء للعرب فهو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة".