كان بين قوم يتسقطون هفواته، ويتتبعون سقطاته يحصونها عليه إحصاء، ويحاسبونه عليها حسابًا عسيرًا، فهو يتقدم إليهم بسلاح التحقيق مستندًا على متكأ من الحقائق، فلا يسقط إن حاولوا أن يأخذوا عليه ما يسقط، ولا يعثر ولا يزل ولا تنزلق قدمه في مزالق الخطر ومداحض الزلل.
ولذلك كان أكثر خطباء اليونان والرومان يهيئون خطبهم قبل إلقائها، ولا يجرؤ واحد منهم مهما تكن ثقته بنفسه قوية، ومهما يكن صيته ذائعًا ومعروفًا باللسان والبيان على الوقوف من غير سابقة تحضير، وإلمام تام بما يقول؛ خشية أن يأخذ عليه النقاد شيئًا، أو يسقط بين أديب سقطة تذهب برواء قوله وحسن مذهبه وما يدعو إليه. ولا يتوهمن متوهم أن في تحضير الخطبة ما يعيب مقدرته، فإن العيب أن يقول كلامًا مبتذلًا لا قيمة له ومعناه تافه صغير. ولتكن له أسوة حسنة في كثير من كبار الخطباء الأقدمين والمُحْدَثين، فإن كثيرين منهم مع قدرتهم التامة على الارتجال يأخذون للموقف الأهبة ويعدون له العدة، عالمين بأن الخطيب كالمجاهد لا يخوض غمار الحرب من غير أن يتدرع بدروعها، ويتترس بتروسها، ويلبس لها لأمتها، ويتخذ لها شوكتها، وليس ذلك في الخطيب إلا بالتحضير والتهيئة والاستعداد للموقف من كل نواحيه.
وإن الذي يتعرض للخطبة من غير سابق تحضير ولا تهيئة، ولم يكن ذا إلمام سابق بالموضوع يجيء كلامه ضعيفًا في معناه ومبناه، بل إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير بما يقول إن لم يراجع نفسه آنًا بعد آنٍ، ويفكر طويلًا فيما يعتزم قوله وقتًا بعد آخر يضعف أسلوبه الخطابي وتلين عباراته، وينحدر إلى منزلق سحيق، وتتجه معانيه اتجاهًا سطحيًّا، وتفقد قوة التأثير في المشاعر والأهواء".