وكان زهير بن أبي سلمى يسمي كبار قصائده الحوليات؛ لأنه كان يمكث حولًا كاملًا في إعدادها وتنقيحها. كذلك فعل خطباء وشعراء العروبة والإسلام؛ لأنهم يدركون أهمية الإعداد والتحضير في الشعر والنثر، ولأنهم يعلمون أن الإعداد والتحضير سمة للإنتاج البليغ.

وفي الحقيقة أن الناس لا يسألون عن هذا الإنتاج في كم يوم تم، وإنما يعجبون به ويمتدحون صاحبه، وما من أحد يسأل: كم ساعة أو يومًا كان يقضيها المتنبي وشوقي في نظم القصيدة، أو علي بن أبي طالب والحجاج بن يوسف في تنسيق الخطبة، أو الجاحظ والمنفلوطي في تحضير المقالة، فرب بيت منقح خير من قصيدة ألف بيت، ورب سطر مجيد خير من كتاب.

والخطيب البادئ يحتاج إلى مجهود كبير في إعداد خطبته، ولكنه لا يتم تكوينه خطيبًا إلا بهذا المسلك، وبعض الخطباء يرون أنفسهم قد نجحوا غير مرة في خطبهم، فيعتمدون على شهرتهم، ويقصرون في إعداد خطبهم وصيانة نفوسهم، فيسقطون وينصرف عنهم السامعون. فعلى الخطيب أن يعلم أن مجهوده في بناء نفسه أول أمره -مهما كان كبيرًا- أسهل من مجهوده في إعادة بنائه إذا سقط. ومعنى هذا أنه ينبغي أن يكون حذرًا من السقوط مهما كانت رتبته.

وعلى هذا فإن من أعظم العوامل لنجاح الخطيب في مهمته، والتي تعلي كعبه وترفع قدره عند مستمعيه، ويتلهفون على لقائه، ويشدون إليه الرحال للاستفادة منه والاستماع إليه في ساعتهم الراهنة، والتحضير الجيد الذي يلم بالموضوع من جميع جوانبه، وأن يراعي ترتيب الموضوع ترتيبًا ويضع كل عنصر في موضعه الذي يناسبه، فلا تجد شيئًا حول الموضوع إلا قد ألم به وأفاده، وأن يكون للخطبة موضوع محدد، كل آية وكل حديث وكل أثر وكل قصة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015