ولقد يعسر على المرتجل تفكيرًا وتعبيرًا أن يعالج الموضوع، وأن يصل منه إلى نتيجة، فهو كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح، أو كهائم لا يعرف وجهته ولا المسالك إليها، ويرتجل الكلام وليس فيه سوى الهذيان من حشو الخطيب".
وإذا كان الخطباء المعاصرون المشهورون يحضرون خطبهم ويعدونها إعدادًا دقيقًا، فقد كان البلغاء القدامى المشهورون يحضرون خطبهم، ويهذبونها ويتمرنون على إلقائها. هكذا كان يفعل "شيشرون"، وكان "كانتليان" من أساتذة الخطابة عند اللاتين، يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في آخر عمره، بعد أن يكون قد تدرب وتمرن. وكتاب (الجمهورية) لأفلاطون يوضح أن جميع خطباء "أثينا" كانوا ينمقون العبارات قبل أن يلقوا خطبهم، لذا تتراءى فيها آثار التعمل والتنقيح والإعداد، وكان محظورًا على غير المتقاضين أن يترافعوا في المحاكم.
وقال البعيث الشاعر وكان أخطب الناس: "إني والله ما أرسل الكلام قضيبًا خشيبًا، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك". وأرادوا عبد الله بن وهب الراسبي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة، فقال: "وما أنا والرأي الفطير والكلام القضيب". يريد بالرأي الفطير الأمر المستعجل الذي لم يبلغ نضجه. وقيل لابن التوأم: "تكلم فقال: ما أشتهي الخبز إلا بائتًا". وقال أحد الشعراء لرجل: "أنا أقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك؟ فقال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبل من شيطانك". كأنه يقول له: إن المهم ليس هو كثرة القصائد، وإنما المهم هو مدى تجويدها وتحضيرها وإعدادها.