وقد كان النقاد الأقدمون يعدون بحق من أمارات رباطة جأش الخطيب التمهل في النطق، فقد قال أبو هلال العسكري في (الصناعتين): وعلامة سكون الخطيب ورباطة جأشه، هدوؤه في كلامه وتمهله في منطقه. قال ثُمامة: كان جعفر بن يحيي أنطق، قد جمع الهدوء والتمهل، والجزالة والحلاوة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني عن الإشارة لكان.
وقبل أن نترك الكلام في هذا المقام نشير إلى نقطتين:
إحداهما: أن الكلام يجب أن يسوده التمهل في الجملة؛ لما بينا، ولكن يصح أن يتفاوت في الجمل بعضها عن بعض، فالجمل الدالة على الفرح والسرور يستحسن أن ينطق بها الخطيب بسرعة نسبية، وكذلك الجمل الدالة على على الغضب؛ ليكون النطق مصورًا للمعنى الروحي لهاتين الحالتين تمام التصوير.
ثانيهما: أن لا يظن ظان أن التمهل معناه أن يكون النطق هادئًا هدوءًا تامًّا، فتعدم الخطبة الحياة والقوة، بل يجب أن يكون في نغمات الصوت ورنانه، وملامح الخطيب ونظراته، والتغيير النسبي في التمهل والسرعة، ما يعطي الخطبة الحرارة والقوة والحياة.
أما الصوت فمن الناس مَن يسمع الإنسان صوته محدثًا أو قارئًا أو خطيبًا، فيشعر بنغماته تثير ارتياحه، وبرنينه يهز إحساسه، وبعمقه يصل إلى أبعد غور في نفسه، وبأشكال مختلفة يتضح المعنى، وينكشف المبهم. ومن الناس مَن تُسمع منه أجمل العبارات وأجودُ الألفاظ الدالة على المعاني، فترى العبارات قد فَقدت جزءًا كبيرًا من بهجتها، وذهب من المعاني أكثر روعتها، فدل ذلك على أن للأصوات أثرًا كبيرًا في حسن وقوع الكلام أو قبحه، وليس المرجع في ذلك جمالها وقبحها، ولكن عمقها وركوزها ورياضتها