تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلًا، ولا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمأكل، وسوف تمرون بأقوامٍ قد فرغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
وواضِحٌ فيما تمثلنا من خطابة أبي بكر -رضي الله عنه- أنه لم يكن يلهج بسجع، إنما كان يلهج بكلام فصيح جزل واضح الدلالة عما في نفسه، وكان يتخير لفظه؛ ورُبّما كان من الأدلة على ذلك ما يُروى من أنّه عرض لرجل معه ثوب؛ فقال له: أتبيعُ الثّوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله. فتأذى أبو بكر بما يوهمه ظاهر اللفظ؛ إذا قد يُظَنُّ أنّ النفي مُسَلّط على الدعاء، فقال له: لقد عُلّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله.
وكان من صواب رأيه وصحة فراسته -رضي الله عنه- اختياره عُمر خليفة من بعده، وكان على شاكلته نَفَاذُ بَصِيرة وصِدْقُ عَزم، وبلاغة لسان؛ كما كان صفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أعز الله به الإسلام في مكة حين أعلن ولاءه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما زال منقطعًا إليه، والرسول يقربه منه ويتخذه موضع مشورته؛ حتى تُوفي وخلفه أبو بكر -رضي الله عنه- فكان له نعم الظهير والمعين.
ولما أسندت إليه مقاليد الخلافة نهض بها في راجحة عقل، حتى إن أحدًا لم يرد عليه رأيًا واحدًا ولا عملًا واحدًا، وما زال يوطئ الأمر بسعة حلم وشدة عزم، مُجندًا الأجناد حتى فُتِحَتْ فارس، وتَمّ فتح الشام، وفتحت مصر وهو على ذلك كله نعم الكالئ والحافظ لرعيته.
وكان بيانه في مِقْدَارِ عَقْلِه قوة وسداد، إذ كانَ في مَرتبة رفيعة من البلاغة والفصاحة؛ حتى قالوا: إنه كان يستطيع أن يخرج "الضاد" من أي شدقيه شاء،