الكريمة ويرطبون كلامهم بها؛ فيكون فيها فصل الخطاب وقطع كل جواب واعتراض، وإذا علمت أن كل خطبهم دينية، عملت مقدار قوة الحديث الشّريف والقرآن الكريم في استدلالهم وفصلهم في خصوماتهم، ففيهما فيصل التفرقة بين الحق والباطل، وصحيح الآراء وسيقيمها.
وفوق ذلك الكتاب الكريم والحديث النبوي الشريف؛ فيهما من البلاغة والفصاحة والروعة واللفظ الجزل، والأسلوب الرّائع والمُحكم من المعاني ما علمت؛ فاتجهوا إلى الاقتباس منهما؛ ليَكْسِبُوا كلامَهُم طلاوة، وليُعطوه حلاوة، وليَقتبسوا من القرآن الكريم والحديث الشريف قُوّة في التأثير، ورنينًا في الآذان، ورَهْبَة في القلوب، وجَمالًا في الأنفس، وبهجة في المشاعر.
وقد تعلو الآية القرآنية بالخطبة فتجعلها من الذروة في البيان والقمة من التأثير وبلوغ المقصد من أقصر طريق، وأقرب منيع، ولذا أكثر الخطباء من الاستشهاد بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف حتى صار ذلك عرفًا شائعًا.
وقد قلّ السّجْعُ في ذلك العصر؛ لأنّ النّفس العَربية الأمية كانت تميل إلى عدم التكلف والصنعة، وزاد الخطباء ابتعادًا عن السجع نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سجع الكهان.
أما من حيثُ الطّول والقِصر في الخُطبة: فأكثر الخطب المروية في هذا العصر قصير لا طويل؛ فيه الإيجاز أظهر من الإطناب، ولعل هذا الموجز جزء من خطبة طويلة حفظ هذا الجزء، وتُبَعْثِر الباقي في الأسماع، أو لعل المُوجز من الخُطب هو الذي استَطَاعَ أن يحفظه الراوي لسهولة حفظه وجودته أكثر من سواه؛ لأنّ رِوايَة الخَطيب في هذا العصر كسابقه، كان المُعَوّل فيها على الرواية السّماعية لا على الكِتابة، إذ لم تكن الكتابة قد انتشرت، ولأنّ الخُطَباء لم يعمدوا إلى كتابة خطبهم. ولم يعمد الناس إلى كتابتها لعدم اعتاديهم ذلك.