ومع هذا ففي المروي خطب طويلة، كخطبة حجة الوادع المنسوبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وككثير من خطب الإمام علي -رضي الله عنه- وكبَعض خُطب الشّهيد المَقتول -رضي الله عنه- عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وكخطب الفاروق عمر -رضي الله عنه- وكل هذا يثبت أن الخطب كانت في ذلك العصر فيها القصير وفيها الطويل، وقد كانوا يضعون الأمور في موضعها؛ فلا يُطيلون في غير موضع الطول، ولا يجوزون في غير موضع الإيجاز.

وهم في الحقيقة أميل إلى الإيجاز أخذًا بأهداب الدين وتَمسُّكًا بأوامره، ولا يطيلون إلا عندما تطرهم الحاجة إلى الإطالة، ويحمله الموضوع والمقام على الإطناب فيطنبون غير مختالين، لأنهم كانوا يخشون أن يكون التطويل من باب احتياز المجالس، والتشادق والتفيهق والثرثرة المنهي عنها؛ ولأنّ الإنسان كلما كثر لغطه كثر سقطه، ويخافون السقط؛ لأنهم من ذوي القلوب النيرة والنفوس المطمئنة.

يُروى أن عمار بن ياسر تكلم يومًا فأوجز؛ فقيل له: لو زدتنا؟ فقال: ((أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإطالة الصلاة وقصر الخُطبة)). وورد في وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين وجهه لبعث الشام قال: إذا وعظت جندك فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا.

خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، ونماذج أخرى

والآن وقد عرفنا عوامل رقي الخطابة وازدهارها في صدر الإسلام، إليكم خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: قال ابن إسحاق، وهو يسرد حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حَجّه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015