وقد كان الخطباء يسلكون في الاستدلال الخطابي الطريق المنطقي، والطريق الوجداني، وذلك لتأثرهم طريق القرآن الكريم في الاستدلال، وأخذهم من معانيه، ونيلهم من هديه؛ إذ كان المثال الذي يحتذونه والمنار الذي يهتدون به.
واقرأ خطبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في ثقيفة بني ساعدة ترى فيها الدّليل المَنْطقي قد التقى مع الدليل الوجداني، وأحكمت الأواصر بينهما من غير أن يطغى أحدهما على الآخر، واقرأ خطب الفاروق عمر -رضي الله عنه- في شوراه، وخطب من يوافقونه، أو يردون عليه ترى الحقائق المنطقية قد صيغت في قالب دِيني يُثير الوجدان، ويوقد العاطفة، ويلهب الحمية، وهكذا في كل أغراضهم البيانية؛ لأنّ حماسة الدين تجتمع مع الحقيقة فتمُدّها بِحَرارة الإيمان ويقظة الوجدان، وقوة الإحساس.
وكانَتْ المَعَاني لما سبق قوية التأثير فيمن يُخاطبون؛ إذا توفرت فيها شروطه وتكاملت أسبابه، وهُما الدِّقّة في الفكر والاستنباط، وإثارة العاطفة وإنهاض العزيمة، وكانت المعاني مسلسلة متصلة الأجزاء محكمة الأواصر، ولم تكن مفككة متناثرة كما كانت في العصر الجاهلي، ولعل السبب في ذلك اجتهادهم في صوغ كلامهم صياغة استدلالية؛ لينتج النتائج التي يريدونها، واتساع معلوماتهم بسبب ذلك الدين الجديد ووحدة الغرض الذي جعلوه هدفًا لكلامهم يصوبنه إليهم لينالوه.
وإنك لتضع ذلك الإحكام وهذا التماسك واضحًا في أكثر خطب ذلك العصر، وخصوصًا خُطب الإمام علي -رضي الله عنه- واقرأ خطبته عندما استشار الفاروق عمر الصحابة في غزوه فارس بنفسه، ترى التماسك بني أجزاء القول وأخذ بعضه بحجز بعض واضحًا كل الوضوح، وعَدَمُ المُبَالَاةِ والإغْرَاق واضح كل الوضوح