أما ألْفَاظُ الخَطَابَة وأساليبها ومعانيها في صدر الإسلام: فقد صفت ألفاظ الخطابة وسهلت، ورقت وعذبت، وذلك لتأثر الخطباء بالقرآن الكريم، واقتفائهم طريقه وسلوكهم سبيله، إذ رأوه المثل الأعلى للكلام فحاكوه وإن لم يتساموا إليه، ولأنّ نُفوسهم هُذِّبَت، وألان الإسلامُ من جفوتها، وأرَقّ من شِدّتها، وبدلها مكان القسوة رحمة، ومكان العنف رفقًا حتى إن الرجل الذي كان يئد ابنته فلا ينشق قلبه لها بعطف، أصبح بالإسلام يسمع كلمة الحق؛ فتنحدر عبرته وتذوب نفسه حسرات.

وإذا رقت النفس وسهلت لا يصدر عنها إلا العذب السهل من الألفاظ؛ فإن الكلمات صورة حية للنفس التي تجيش بها، ولأنّ الله سبحانه أورثهم ملك كسرى وقيصر، فجاءتهم الغنائم وأصبحوا فاكهين في نعيم، بعد أن كانوا في شظف من العيش، وخُشونة من الحَياة.

ولقد قال خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متنبأ بما يكون: "واللهِ لتَألَمَنّ النوم على الصوف الأزربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان". وقد كان أن نال العرب من نعيم الحياة أشرًا بعد أن ذاقوا من الشقوة بؤسًا، وتلك الحال التي تنبأ بها الإمام العظيم لو لم تتم في ذلك العصر وإن أخذت خطواتها فيه.

وإذا كان العربي قد ذاق هذا النعيم ورأى مناظر الطرف وعاش في مظاهره، فلا بُدّ أنّ تلين ألفاظه، وتَسْهُل عِبَاراته لأنّ الألفاظ صورة لما يألفه القائل، ويعرفه المُتكلم.

ولقد ذهب من الألفاظ الكثير من الحشو؛ لاجتماع العرب على لغة واحدة هي لغة قريش، وذهاب اللغات الأُخرى؛ فلم يبقَ مِنها إلا النادر من الألفاظ والأساليب؛ ولأنّ الخطَابة كان عمادها في الإسلام المألوف المكشوف، لأن الغاية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015