الاجتماعية، وبقي أن تعرف أثر ذلك في خُطَبهم، أكسبتهم تلك الحضارة سهولة في التعبير لم تكن فيهم؛ إذ هَذّبت من طباعهم، وقَلّلت من جفوتهم وخشونتهم، فلانت من غير ضعف، وابتذال عبارتهم كما أكسبتهم سعة الخيال وغزارة في المعاني وعِرْفَانًا تامًّا بما تقضيه الأحوال.

وقد أكبسهم اختلاطهم بالأمم، وهم ذووا الذكاء الفطري والفراسة، معرفة كثيرة بأحوال النفوس؛ فاستخدموا كل ذلك في خطبهم، وبدت غزيرة المعاني، متنوعة الموضوعات وافية فيما يقصد إليه الخطيب من غرض، وما يتجه من هدف ومرمى.

رابعًا: تَكْوينُ حكومة نظامية: كان تكوين الحكومة الإسلامية عاملًا عظيمًا من عوامل اتساع موضوعات الخطابة، فقد كانت هي أداة اتصال الحاكمين بالمحكومين، بها اتصل الحُكماء بالشعب في خُطبهم العامة، وبها اتصل الولاة بالأقاليم بمن يحكمونهم، ويُبين هؤلاء وأولئك ما يُريدون أن يكون المَحْكومون عليه من طاعة في الحق، وإرشاد للحاكم من غير تمرد أو عصيان.

وكذلك الوعظ الديني كان له الشأن الأول؛ لأنّ الدين كان أساس وحدتهم، وجامع كلمتهم، ومُكَوّن دولتهم، ولذلك كان له الاعتبار الأول، وقد حَثّ الإسلامُ على الأمر بالمعروف، والنّهي عن المُنكر، وجعله قوام هذه الأمة، ومَنَاط عِزّها، وطريق ارتقائها، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).

وقد كانت الخُطبة فرضًا في الجُمعة لذلك الغرض، فكان للخطابة من ذلك المبدأ الديني السامي، مبدأ التواصي بالحق والتناهي عن الشر، رقي -أي رقي- وسمو عظيم، إذ جُعِلَت من شَعَائر الدين ومظاهر القوية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015