وقد أثار ذلك روح العُجب والإعجاب في أصحابه، حتى قال له أبو بكر -رضي الله عنه-: لقد طُفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)).
وقد كان للحديث أثران في الخطابة:
أحدهما: من ناحية تأثيره في اللغة؛ لأنّ الحَدِيثَ أضاف إلى اللغة ثروة من المعاني، وثَروة من الأساليب التي كانت تُعد من النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتداعًا وابتكارًا، مثل قوله: ((حمي الوطيس)). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الضعيف أمير الركب)) وقوله: ((مات حتف أنفه)) وقوله: ((هدنة على دخن)) وقوله: ((لا ينتطح فيه عنزان)) وقوله لمن ساق إبل بعنف وعليها نساء: ((رويدك رفقك بالقوارير)) ولأن الحديث هذب اللغة تذهيبًا قريبًا من تهذيب القرآن الكريم، إذ سهل ألفاظها، ورَقّق أساليبها، وذهب بالغريب منها؛ فكان لكل هذا أثره في الكتابة؛ لأنّها شُعبة الأدب الأولى في هذا العصر بل أعظم شعبه وأظهر مظاهره.
ثانيهما: أنّ كثيرًا من الخُطباء كان يرطب لسانه في خطبه بشيء مما أُثر عَن الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- تيمنًا بقوله، واسترواحًا للسامعين، وليكسبوا كلامهم روعة وليستشهدوا بكَلام الرّسُول -صلى الله عليه وسلم- على صِحّة ما يَدْعُونَ، وإذا عَلمت أنّ أكْثَر الخُطب في ذلك العصر كانت تدور على مبادئ الدّين قوامها، عَلمت مقدار عنايتهم برواية أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاستشهاد بها في خطبهم.
ثالثًا: الحَضارة: أخذت الحضارة تغزو نفوس أولئك البدو، ولكنها لم تستول عليهم استيلاء تامًّا كما علمت، فاجتمعت فيهم قوة البدوي ونخوته، وبعض دماثة الحضري ورقته، ولقد علمت أسباب ذلك فيما بيناه من شرح أحوالهم