وهو في أثناء ذلك يخطب في الناس داعيًا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ محاولًا بكل طاقته أن يوقظ ضميرهم بما يصور لهم من قوة الكائن الأعلى، مُدبر الكون ومنظمه، الذي لم يخلقهم عبثًا، وإنما خلقهم ليعبدوه حق عبادته، وليستشعروا كل ما يمكن من الكمالات الروحية والاجتماعية والإنسانية؛ حتى تتم لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
وهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فاتصلت خطابته، واتسعت جنباتها بما أخذ يشرع للمسلمين ويرسم لهم حدود دولتهم ونظم حياتهم؛ التِي يَنْبَغي أن تقوم على الإخاء والمساواة والتعاون في سبيل الحق والخير، وهو في تضاعيف ذلك يأخذهم بآداب رفيعة من السلوك السامي، مبينًا لهم مَعاني الإسلام الرُّوحية، التي تقوم على معرفة الله الواحد الأحد والصلة به، كما تقوم على معرفة العمل الصالح وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى، يُحاسب فيها الإنسان على ما قدمت يداه، ولو كان مثقال ذرة.
وما يزال يعرض أوامر الدين ونواهيه، واضعًا الحُلول لكثير من المشاكل الدنيوية؛ كمشكلة الرقيق، ومشكلة توزيع الثروة، ومشكلة العلاقات بين الرجل والمرأة، وغير ذلك من مشاكل حُلّت بما يحقق سعادة الجنس البشري وهناءته.
وعلى هذا النحو كانت خطابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- متممة للذكر الحكيم، ومن ثم كانت فرضًا مكتوبًا في صلاة الجُمَع والأعياد، ثم في الحج. وتحتفظ كتب الحديث بما اتخذه فيها من سنن وتقاليد، ثبتت إلى اليوم؛ بينما كانت تسبق خطابة الصلاة في الجُمع كانت الصلاة تسبقها في الأعياد، وهي تتوزع على خطبتين يقف فيهما الخطيب على منبر، أو أرض عالية؛ وقد اعتمد على قوس أو عصا ويُقبل على الناس مسلمًا.