وأصدق الخطب التي تدل على هذه الحال فيهم: خطب أكثم بن صيفي؛ فإنها حِكَمٌ مُتناثرة بل هي در منثور غير منتظم في عقد، ولكن إذا اتحد الغرض في الخطبة جاء التماسك في الجملة في أجزائها؛ وكثيرًا ما تكونُ الخُطب التي على هذه الشاكلة موجزة كل الإيجاز؛ كخطبة أبي طالب في زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من السيدة خديجة -رضي الله عنها.
وقد كانت عدم تماسك أفكارهم من دواعي كثرة الحكم والأمثال في خطبهم، حتى لقد رأيت أن أكثم -كما بينا- كانت خطبته كلها حكمًا، وقد يَسْتَشْهِدُ بَعْضُهم بحكمة عالية لغيره؛ أو بمَثَلٍ سَائِرٍ يضربه؛ ليقايس بين حال من يخاطبهم، وحالِ من قبل من قيل المثل فيهم؛ وأخص ما تمثل به المعاني الخطابية عند العرب صدقها، وعدم وجود الإغراق والمبالغة فيها، وذلك لما فيه من صراحة وحب للصدق والحقيقة.
وقد ترى في نصائحهم ووصاياهم معاني اجتماعية، وخُلُقية عالية؛ ولكنها في جملتها ليست مبنية على دراسة وبَحث؛ بل هي صورة لتجارب الحياة، تجيء على ألسنة من غير كد للذهن، ولا تعمق في الدرس.
أما أسلوب الخطابة في الجاهلية: فأول ما تلقاه في المأثور من الخطب العربية، أنك لا تجد الخطب قد لوحظ فيها حسن الافتتاح، وتنسيق الموضوع وتجزئته، ثُمّ حُسن اختتامه؛ فإنّ ذلك شأن الخطيب الذي يحبر خطبته، ويزور كلامه ويهيئه ويعده، ولم يكن أكثر خطباء الجاهلية كذلك، بل كانوا يرتجلون الكلام ارتجالًا؛ لذلك لم تكن خطبهم منسقة مجزأة؛ بل كانت في الجملة غير متماسكة لعدم تماسك معانيها.
وأسلوبهم الكلامي لا تكلف فيه ولا صناعة، لعدم عنايتهم بتهيئة القول، ولذلك خلا من كل المحسنات اللفظية، كالجناس والتورية؛ وما إلى ذلك مما نص عليه في علم البديع، وكانوا أحيانًا يُسجعون في خطبهم؛ كما نرى في سجع