ومناسبة تلك الكلمات الجاسية الشديدة، من الموضوعات التي قيلت فيها؛ فأكثرها قيل في دعوة إلى قتال، أو في مُفاخرة بنزال، أو في وصف يوم كريه، أو نحو ذلك.
وأنْسَبُ الكلام لهذه الموضوعات ما كان شديدًا قوي الأسر؛ فخمًا ضخمًا؛ ليُقرع الحِسّ ويدفع النفوس إلى حيث تترخص الأرواح، وقد كان في كلماتهم الكلمات الحشوية الغريبة؛ ولعل هذه كانت من لغة حِمير، التي طغت عليها لغة قريش حتى أخذت في الاندثار، وبقي في الخطب والشعر منها كلمات نابية؛ لأنها تعيش في غير بيئتها منفردة عن أخواتها.
ونَجِدُ في خطبهم سوق الحقيقة قائمًا وسوق المجانة كاسدًا؛ فألفاظهم إلا قليلًا مُستعملة في ما وضعت له، وذلك لإحاطتهم الكاملة بلغتهم، وعلمهم علمًا صحيحًا بمَدْلُولات الألفاظ، ووجه دلالتها عليها؛ وقِلّة حاجاتهم إلى استعمال لفظهم في مدلول آخر؛ لعدم وجود طوائف من المعاني ليس في العربية ما يدل عليها، وهذا لا يمنع من أن يكون في كلامهم الكنايات الرائعة، والأمثال السائرة، والتشبيهات المُحكمة؛ فإنّ ذلك كان عندهم، ولكن لم يكن كثيرًا في خطبهم لإرسالهم القول ارتجالًا من غير تحضير وتهيئة.
أما معاني خُطب الجاهلية؛ فهي فطرية تنشأ عن اللمحة العارضة، والفِكْرَة الطّارِئة، وعفو الخاطِر من غير كدٍّ للفكر، ولا تَعَمّق في النظر، لأنهم لم يكونوا أهل علوم يسودهم التفكير المنظم، والتقسيم المستقري، والتّتبُع لكل أشتات الموضوع؛ ليَجْمَع شَمْلَها في خطبة، ويَضم مُتفرقها في بيان، ولِذَلك جاءت خُطبهم غير متماسكة الأجزاء، وغير مُسلسلة الأفكار؛ لا يَأخُذ المعنى بحجز الآخر في فكر رتيب؛ لتستوفي الموضوع كله.