تظهر قوة البديهة العربية، والقدرة البليغة على الارتجال، وأكثر ما تجد في هذه الخطب أو الوصايا: اتّسَامُها بقِصر الجُمل، وسَرْد الحِكم؛ حتى تَكاد تنقطع الصلة بين جملة وأخرى، وهي في جُملتها خُلاصة تجاربهم وخبرتهم بشئون الناس وأحداث الحياة، وليس في حكمهم بنايات فلسفية عميقة؛ لقلة ثقافتهم وعدم دراستهم، ولكن لهم نظرات صائبة، وآراء حكيمة، لا نزال نحتاج إليها، ونَسْتَعِينُ بها فيما يطرأ لنا من أحداث تُشبه ما طرأ لهم. وكثيرًا ما يأتي السجع في عباراتهم عفوًا؛ فإن لم تكن العبارة مسجوعة كانت الجمل مقسمة متوازنة.
وخطب الأعراب وأدعيتهم من أبلغ وأجمل ما في أساليب اللغة العربية، وخطب الجاهليين وأدعيتهم ومحاوراتهم ووصاياهم كلها مما يستعين به الخطيب الحديث، ويَجِدُ فيها مددًا واسعًا بالرأي والفكر؛ وبالتعبير والبلاغة، وعلى الراغبين أن يرجعوا إلى المصادر التي تضمنت تلك الخطب ليستفيدوا منها.
وأول ما يلاحظه القارئ للمأثور من خُطَبِ العَرَب في الجاهلية على ألفاظها: قوة وجزالة: تَصِلُ أحيانًا إلى الخشونة، ولعل السبب في ذلك: قُوّة نفوسهم، وشِدّة بأسهم، واندفاعهم في حماسة؛ فإن الكلمات صورة حية لنفس قائلها، تجيش صدورهم بالبأس؛ فتندفع ألسنتهم بكلمات هي الصورة لتلك القلوب القوية الجريئة، ومعيشتهم في الصحراء ببأسائها ولأوائها وشدتها؛ فأصبحوا لا يَرون إلا ما فيها من جبال وآكام ووهاد، فيكون كل ما يصدر عنهم مناسبًا لتلك المناظر؛ مأخوذًا من تلك المشاهد.