أو في عقيدة، أو كان الاختلاف بسبب تنافس على غنيمة أو متاع أو سلطة، فيحاول المتفوق أن يستميل إليه من يخالفونه وأن يقنعهم، فإذا ما أقنعهم واستمالهم فهو خطيب وقوله خطبة، ثم إنه من الطبيعي أن تنشب أمور تستدعي تعاون المجتمع، وتضافر قواه على اجتلاب نفع عام مشترك أو اتقاء ضرر عام، فيتصدر بعض النابهين من هذا المجتمع لقيادة الجماعة وزعامتها، وعدتهم في ذلك الخطابة، على أن الناس في حياتهم القديمة تسلحوا بأسلحة مادية للدفاع والعدوان، وتسلحوا أيضًا بسلاح معنوي هو اللسان.
وما زالت الخطابة إلى الآن سلاحًا مرهفًا تتصاول به الأمم مهما جيشت جيوشها، وتفننت في اختراع القذائف والمدمرات، لذلك لم يخلُ من الخطابة سجل أمة وعى التاريخ ماضيها، فقد حفظها خط أشور المسماري، وقيدها خط الفراعنة الهيروغليفي، ثم رواها تاريخ اليونان السياسي والأدبي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبها أخضع بوذا الجموع الهندية لتعاليمه، وبها أذاع الدين أنبياء بني إسرائيل، وكان لها مكانها العظيم في مجامع العرب قبل الإسلام وفي أسواقهم الأدبية بنوع خاص.
يقول ابن رشد ناقلًا عن أرسطو: "ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معه البرهان في الأشياء النظرية، التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إما لأن الإنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإذا سلك نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل إقناعه، وإما لأن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلًا، وإما لأنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه، فهذا الصنف الذي لا يجدي معه الاستدلال المنطقي تهديه الخطابة إلى الحق الذي يراد اعتناقه؛ لأنها تسلك من المناهج ما لا يسلك المنطق".