وقد كانت قوة إحساس العربي وشدة حميته واندفاعه، ومن عيشته في الصحراء صَافية السماء، ومن أعظم الدواعي للخطابة والاتجاه إليها؛ فإنّ قُوّة العَاطِفَة تَدْفَعُ ذا البيانِ إلى تبيانها.
وفي الجُملة: إنّ حَياةَ العَرَبيّ في الصّحَرَاء كانَتْ حَياة فرُوسِيّة وقوة شكيمة، دَفعته إلى البيان دفعًا، وكانت الخطابَةُ في الجاهلية لها موضوعاتها التي تعرض لها، من أهم هذه الموضوعات التي كان يَخطب بها الخطباء في الجاهلية: إثارة الحمية، وإيقاظ الحماسة، وتثبيت القلوب.
وفي الواقع أنّ العرب قد قاموا في هذا أبلغ كلامهم، وأصدق عبارات دالة على قوة شكيمتهم، وإقْبَالِهم على المَوتِ بنَفْسٍ قَويّة وبأس وحمية، وطَبَعي أن يكون الحث على القتال، والحض على اللقاء، أعظم أغراض القول في أمة تعمد القبيلة فيها السيف فيه الذود عن حياضها، والدفاع عن شرفها، ولا حاكم يَرْدَعُ المعتدي، ويَزْجُر الطّاغِي، بل طبعي أن يكون البأس فخار العربي، والشجاعة شَرَفُه، وأنْ يَكُونَ كُلّ قولٍ خِطابي يتعلق بالشجاعة والقتال أروع بيانهم؛ لأنّ البَدَوي أخَصُّ صفاته البأس والقوة والبطش؛ فلا غرابة في أن تكون أعظم موضوعاته بلاغته.
ثانيًا: الصلح: فكثيرًا ما كانت الحربُ تنتهي بالصلح بين المتحاربين؛ يَنْهَضُ به ذووا الرأي والحزم؛ فيحسمون الداء، ويقضون على العداوة التي كانت موجودة بين المُتقاتلين. ومن أعظم الخطباء الذين امتازوا في بالقول في هذا المقام: أكثم بن صيفي، فكثيرًا ما كانت ترد على لسانه في خطبه التي تُشْبِهُ الدُّرّ المَنْثُور مَضَارّ الحَرْبِ ومساوئها الوبيئة، ونفع الصلح وعواقبه المرئية.