ومكّة المُكرمة وما حولها للخصب القليل بها، ولِمَا كَانَ يَفِدُ به الحجيج عليها من خيرات وثمار، ولِوُقوعِهَا في الطريق الموصل بين اليمن والشام، وتُجّارِ قُريش؛ لهذا كُلّه كان بها ثروة وسلطان، وشِبه حكومة الرياسة فيها لأكبر بيت في قريش، وكان بمكة المكرمة دار ندوة يجتمع فيها زعماء العرب، وإقبالهم من كل نواحي البلاد. هذه إلمامة موجزة أشد الإيجاز لبيئة العرب وأحوالها.
أما العربي: فعَصَبِيُّ حاد يَثُور لأتْفَهِ الأسباب، ويَحْمِلُ السّيف عند أول نداء، إذا استولت على رأسه فكرة نفذها من غير تدبر لعواقب، أي لا يرضى ضيمًا، ولا يَسْكُن إلى ذل، جوادٌ كريم، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة وفقر، يرعى حرمة الجوار ويفي بعهده، قال فيه بعض الفرنجة: إنه نبيل بفطرته، وقد مكنته صحراؤه وضعف السلطان فيها من أن يعيش عيشة فروسية، اعتماده في الحماية على سيفه، لا على حكومة تحميه، ولا على دولة ترعاها.
ولقد كان فيه بعض المساوئ سببها له جهله وأميته، أو فقره وإدقاعه؛ كقتل الأولاد خشية الإملاق والحاجة. هذا هو العربي وتلك حياته وبيئته، وهي لعمري حافزة للخطابة مستثِيرة البيان الرائع.
وإذا علمت أنّ العرب كانت لهم دَار نَدْوة يَجْتَمِعون فيها ويتشاورون ويساجلون ويقررون ما يرون صالحًا، ولهم أسواق هي شبيهة بالمنتديات الأدبية؛ كانت منابر عامة تروج فيها بضاعة الكلام البليغ، وتُزْجَى فيها غَيْرُها كانت في العرب مساوئ -كما أسلفنا- وكانت بالغة الحد الأعلى من الشناعة، وقد نعاها القرآن الكريم عليهم، وكان بعضهم يستنكرها عليهم قُبيل الإسلام، لذلك تصدى هؤلاء للدعوة بخطب رائعة إلى الفضيلة والحث عليها، ونبذ العادات السيئة والخرافات الباطلة. وربما كان أظهر هؤلاء الدعاة أكثم بن صيفي، وقس بن ساعدة.