الوضوح في العصر العباسي الأول، فقد جاء في (البيان والتبيين) للجاحظ وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه أن بشرًا بن المعتمر مر بإبراهيم بن جبلة وهو يعلم فتيانه الخطابة، فقال بشر: "أضربوا عن ما قال صفحا واطووا عنه كشحا"، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وفي هذه الصحيفة وصف جيد لأساليب الخطابة وألفاظها ومعانيها، ويظهر أنهم لم يقتصروا على استنباطاتهم العربية، بل كانوا يستعينون بما في آداب الأمم الأخرى؛ ليعاونهم ذلك في استنباطهم ويمدهم بما ليس عندهم، وينبههم إلى ما عساه يعزب عن خواطرهم.

ومن ذلك ما جاء في (البيان والتبيين) و (الصناعتين) قال معمر أبو الأشعث: "قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة، فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجم فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح ... "، إلى آخر ما جاء في هذه الصحيفة من وصف جيد للخطيب والأسلوب الخطابي.

ألا ترى من هذا ما يدل دلالة راجحة على استعانتهم بالآداب الأجنبية وتغذيهم بها، وقد استمر البحث في الخطابة وأصولها ينمو ويكثر ما كانت الخطابة ناهضة، وكان أكثر من يقوم به أئمة المعتزلة الذين احتاجوا إليها؛ ليحتازوا مجالس المناظرات ويتغلبوا على خصومهم من ذوي الجدل، ولذا نبغ فيهم خطباء كثيرون، ومنهم من يعرف بعض أصول الخطابة وقوانينها؛ كعمرو بن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015