وهو -رضي الله عنه- الذي سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفاروق؛ لأنّ اللهَ فَرّق به بينَ الحَقّ والباطل، وسيرته -رضي الله عنه- تاريخ حافل، وأعماله وتسييره لدفة الحُكم صارت دستورًا ونظامًا يقتفى، ومن ذلك: أنه كتب إلى قُضاته ما اعتبره الفقهاء وأهل الأصول القاعدة التي ينطلق منها القضاء في الإسلام، وأصّلُوا على تلك القاعدة أصولًا، واستخرجوا من تلك الأصول فروعًا.
ونص كتابه -رضي الله عنه- إلى القضاء يقول: "أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنّة متبعة، فافهم إذا أدى إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ساوِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يَطْمَعَ شَريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البَيِّنَةُ على من ادعى، واليمينُ عَلَى من أنكر، والصُّلْحُ جَائِزٌ بين المسلمين، إلّا صُلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهُديت فيه لرُشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قويم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سُنّة، ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا، وبينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحق وإلّا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماء، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مُجرب عليه شهادة زور، أو ضنين في نسب، وإياك والقلق والضجر والتأفف من الخصوم؛ فإنّ اسْتِقرار الحق في مواطن الحق يُعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، والسلام".
ولم يكن يتولى القضاء في عهد الخلفاء الرّاشدين إلا من توفرت فيه شروط؛ منها: أن يكون ذكرًا، بالغًا، مكتمل القوى العقلية، حرًّا، مسلمًا، غير متهم في دينه أو مروءته، سليم الحواس، واسع الإلمام بالفقه والشريعة.