وحسن الخلق لا يُؤسَّس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة؛ إذ لا يكفي في طبع النفس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهدًا مستمرًّا، ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيِّئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، وإنما يُتوقع الأثر الطيب ممن تمتدّ العيون إلى شخصه فيروعها أدبه، ويسبيها نبله، وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره، بل لا بد ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل؛ ليكون في متبوعه قدر أكبر، وقسط أجل.
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه مثلًا أعلى في الخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة قبل أن يغرسه بما يقوله من حِكَم وعظات، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: ((إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا))، وكان يقول: ((خياركم أحاسنكم أخلاقًا))، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ((خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي: أفٌّ قط، ولا قال لشيء: لما فعلت كذا، وهلَّا فعلت كذا)) رواه البخاري.
وعنه -يعني: عن أنس -رضي الله عنه: ((إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم يُرَ مقدمًا ركبتيه بين يد جليس له)) الحديث رواه الترمذي، يعني: أنه -عليه الصلاة والسلام- يتحفَّظ مع جلسائه فلا يتكبر عليهم.
وفي يسره وسهولته -صلى الله عليه وسلم- تُخبر عائشة -رضي الله عنها- عن هذا اليسر فتقول: ((ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان