نعم؛ إنه لمما يجب علي أن أنوه به أنه -رحمه الله- عقد فصلًا خاصًا (?) (في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين) يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين فهمًا صحيحًا، فإنه حقق فيه تحقيقًا رائعًا ما هو مسلم به عند العلماء أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة.
فمن المفيد أن أقدم إلى القارئ فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه، ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح ويؤيد المذهب الرجيح.
لقد أفاد -رحمه الله- (أن الكفر نوعان: كفر عمل. وكفر جحود واعتقاد ...
وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده؛ فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا).
(قلت: هذا الإطلاق فيه نظر، إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحيانًا، وذلك إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته، كاستهزائه بالصلاة والمصلين، وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها، كما سيأتي فتذكر هذا فإنه مهم).
ثم قال رحمه الله:
(ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه، ولكن هو كفر عمل، لا كفر اعتقاد.
وقد نفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان عن الزاني، والسارق، وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد).
(قلت: لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر، فيقال مثلًا: من زنى فقد كفر، فضلًا عن أنه لا يجوز أن يقال: فهو كافر حتى على تارك الصلاة -أي أن يقال: كافر-، وعلى غيره ممن وصف في الحديث بالكفر وقوفًا مع النص، ومن باب أولى أن لا يقال: كافر حلال الدم!!).
ثم قال -رحمه الله- بعد أن ذكر الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
(ومعلوم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر، ولوازمهما).
ثم ذكر الأثر المعروف عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه).
(قلت: زاد الحاكم: (إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، كفر دون كفر) وصححه هو (2/ 313) والذهبي.
وهذا قاصمة ظهر جماعة التكفير، وأمثالهم من الغلاة).
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
(والمقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام أو الإيمان).