منيبًا إليه، مستكينًا ذلًا وخضوعًا وانكسارًا، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.
وقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، وقد سجد معه أنفه ووجهه، ويداه وركبتاه، ورجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.
وشرع له أن يُقل فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه وعَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظه من الخضوع لا يحمل بعضه بعضًا.
فأحرى به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلها، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجد". [رواه مسلم (482) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-].
ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة، كما قيل لبعض السلف:
هل يسجد القلب؟
قال: "أي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عز وجل". [هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/ 287) (23/ 138)].
إشارة إلى إخبات القلب، وذلّه، وخضوعه، وتواضعه وإنابته وحضوره مع الله أينما كان، ومراقبته له في الخلاء والملأ، ولما بنيت الصلاة على خمس: القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر.
سميت باسم كل واحد من هذه الخمس:
فسمّيت "قيامًا" لقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2]، وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
و"قراءة" لقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].
وسمّيت "ركوعًا" لقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48].
و"سجودًا" لقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
و"ذكرًا" لقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9].
وأشرف أفعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} افتتحت بالقراءة، وخُتمت بالسجود، فوضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجود.
ثم شرع له أن يرفع رأسه، ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين؛ سجود قبله، وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه، ثم منه إلى السجود الآخر، كان له شأن، فكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه، ويدعوه ويستغفره، ويسأله رحمته، وهدايته ورزقه وعافيته، وله ذوق خاص، وحال للقلب غير ذوق السجود وحالهن؛ فالعبد في هذا القعود يتمثل جاثيًا بين يدي ربه، مُلقيًا نفسه بين يديه، مُعتَذرًا إليه مما جَناَه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه، مستَعديًا له