على نفسه الأمَّارة بالسوء.
وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي"، ويكثر من الرغبة فيها إلى ربه.
فمثل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق، وأنت كفيل به، والغريم مماطل مخادع، وأنت مطلوب بالكفالة، والغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق، لتتخلص من المطالبة، والقلب شريك النفس في الخير والشر، والثواب والعقاب، والحمد والذم.
والنفس من شأنها الإباق والخروج من رقِّ العبودية، وتضييع حقوق الله عز وجل وحقوق العباد التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها، وهي شريكته وأسيرته إن قوى سلطانه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديًا على نفسه، معتذرًا من ذنبه إلى ربه ومما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويرحمه ويهديه ويرزقه ويعافيه، وهذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا والآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله.
فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه وأخراه ويجمع رزق بدنه ورزق قلبه وروحه، وهو أفضل الرازقين.
والعافية تدفع مضارها.
والهداية تجلب له مصالح أخراه.
والمغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا والآخرة.
والرحمة تجمع ذلك كلّه. والهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها.
وشرع له أن يعودَ ساجدًا كما كان، ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد من ربِّه وموقعه من الله عز وجل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد، وهو أشهر في العبودية وأعرق فيها من غيره من أركان الصلاة؛ ولهذا جُعل خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة، وكما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته وهو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال: أتذكر أمرًا من أمور الدنيا ونحن نتراءى لله سبحانه وتعالى في طوافنا.
ولهذا والله أعلم، جُعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالًا من الشيء إلى ما هو أعلى منه.
وشُرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال؛ إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، والشرب نفسًا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فإذا كانت يغني عنه تلك اللقمة؟ وربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به؛ ولهذا قال بعض السلف: "مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك".
وفى إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيد خير وإيمان من فعلها، ومعرفة وإقبال وقوة قلب، وانشراح صدر وزوال درنٍ ووسخٍ عن القلب بمنزلة كسل الثوب مرَّة بعد مرَّة.
فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه وأمره، ودلت على كمال رحمته ولطفه، وما لم