المخاطب الحاضر، دون ضمير الغائب، وهذا موضوع يستدعي كتابًا كبيرًا، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطناه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب: "مراحل السائرين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" وفي كتاب "الرسالة المصرية".
ثم ليتأمل العبد ضرورته وفاقته إلى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي مضمونه معرفة الحق، وقصده وإرادته والعمل به، والثبات عليه، والدعوة إليه، والصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية وما نقص منها نقص من هدايته.
ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه، بل وفي جميع ما يأتيه، ويذره من:
* أمور فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادة، فهو محتاج إلى التوبة منها والتوبة منها هي من الهداية.
* وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
* وأمور قد هُدى إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم، وأن يزداد هدى إلى هداه.
* وأمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.
* وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقادًا صحيحًا.
* وأمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل، وتُثبت فيه ضده.
* وأمور من الهداية: هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة.
* وأمور منها: هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها.
* وأمور منها: هو غير قادر عليها ولا مريد لها، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها والإرادة لها لتتم له الهداية.
* وأمور: هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة، وعلمًا وعملًا، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات، ولهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمس، مرات متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب.
* ثم بين أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، وهو اليهود، والنصارى وغيرهم.
فانقسم الخلق إذًا إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:
مُنعم عليه: بحصولها له واستمرارها وحظه من المنعم عليهم، بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.
وضالٌ: لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفق لها.
ومغضوب عليه: عَرفها ولم يوفق للعمل بموجبها.
فالضال: حائد عنها، حائر لا يهتدى إليها سبيلا.
والمغضوب عليه: متحير منحرف عنها؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى، ودين الحق علمًا وعملًا واعتقادًا والضال عكسه، منسلخ منه