حمده وسع كل شيء، وعلمه وسع كل شيء، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، وغيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصة فهو منفي عنها.
عنوان: عبودية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.
ويعطي قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} عبوديته من الذل والانقياد، وقصد العدل والقيام بالقسط، وكف العبد نفسه عن الظلم والمعاصي، وليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد وتفرد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير والشر، وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه كما قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].
ويروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة وأهل النار، عدلًا وفضلًا، ولما كان قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إخبارًا عن حمد عبده له قال: حمدني عبدي.
ولما كان قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إعادة وتكريرًا لأوصاف كماله قال: "أثنى علي عبدي"، فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد، وتعداد أوصاف المحمود، فالحمد ثنْاء عليه، و {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وصفه بالرحمة.
ولما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين وهو الملك الحق، مالك الدنيا والآخرة؛ وذلك متضمن لظهور عدله، وكبريائه وعظمته، ووحدانيته، وصدق رُسله، سمَّى هذا الثناء مجدًا فقال: "مجدني عبدي" فإن التمجيد هو: الثناء بصفات العظمة، والجلال، والعدل، والإحسان.
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر جواب ربه له: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل".
وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى، والكلمة التي للعبد، وفِقهِ سر كون إحداهما لله، والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، وفِقهَ سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، والدعاء بعدهما، وفِقه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، وتقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخرًا أوجز وأخصر، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة.
قلت: أراد تقديم العبادة -وهي العمل- على الاستعانة، فالعبادة لله والاستعانة للعبد، فالله هو المعبود، وهو المستعان على عبادته، فإياك نعبد؛ أي إياك أريد بعبادتي، وهو يتضمن العمل الصالح الخالص، والعلم النافع الدال على الله، معرفة ومحبة، وصدقًا وإخلاصًا، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه، والاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره، وهي القول المتضمن قسم العبد.
(فكل عبادة لا تكون لله وبالله) فهي باطلة مضمحلة، (وكل استعانة تكون بغير الله) وحده فهي خذلان وذل.
وتأمل علم ما ينفع العباد وما تدفع عنهم كل واحدة من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعًا ودفعًا وكيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبودية.
وتأمل علم كيف يدور القرآن كله من أوْله إلى آخره عليهما، وكذلك الخلق، والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمْنتا لأجل الغايات، وأكمل الوسائل، وكيف أتى بهما بضمير