بحمده، والخلق والأمر كله صادر عن حمده، وقائم بحمده، ووجوده وعدمه بحمده، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمرت بأهلها بحمده، والنَار عُمرت بأهلها بحمده، كما أنها إنما وجدتا بحمده.
وما أُطيع إلا بحمده، وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يتحرك في الكون ذرة إلا بحمده، فهو سبحانه وتعالى المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد.
كما أنه هو الواحد الأحد، وإن لم يوحِّده العباد، وهو الإله الحقُّ وإن لم يؤلهه، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سَمعَ اللهُ لمن حَمدَه".
فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه هو الذي أجرى الحمدَ على لسانه وقلبه، وأجزأه بحمده فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره.
فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد، وهي نقطة من بحر لُجي من عبوديته.
ومن عبوديته أيضًا: أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه، يستحق عليها الحمد، فإذا حمده عليها استحق على حمده حمدًا آخر، وهلم جرا.
فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فور ذلك، وأضعاف أضعافه، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحمدته، ولو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكل نعمة من ربه، يحمده عليها، فإذا حَمده على صرفها عنه، حمده على إلهامه الحمدُ.
قال الأوزاعي: "سمعت بعض قوال ينشد في حمام لك الحمدُ إمّا على نعمة وإما على نقمة تُدفع".
ومن عبودية الحمد: شهود العبد لعجزه عن الحمد، وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك، فهو محمود عليه، إذ هو الذي أجراه على لسانه وقلبه، ولولا الله ما اهتدى أحد.
ومن عبودية الحمد: تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها وباطنها على ما يحب العبد منها وما يكره، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم، برهم وفاجرهم، علويهم وسفليهم، فهو سبحانه المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة، وإن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك، وما يستحق الرب تبارك وتعالى من الحمد على ذلك والحمد لله: هو إلهام من الله للعباد، فمستقل ومستكثر على قدر معرفة العبد بربه.
وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث الشفاعة: "فأقع ساجدًا فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط".
ثم لقول العبد: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية وحده، وأنه كما أنه رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومدبر أمورهم، وموجدهم، ومغنيهم، فهو أيضًا وحده إلههم، ومعبودهم، وملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إله سواه.
عنوان: عبودية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
ولقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عبودية تخصه سبحانه، وهي شهود العبد عموم رحمته.
وشمولها لكلّ شيء، وسعتها لكل مخلوق وأخذ كل موجود بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصَّة بالعبد وهي التي أقامته بين يدي ربه: أقم فلانًا - ففي بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا، وأنم فلانًا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه، ويتملقه ويسترحمه ويدعوه ويستعطفه ويسأله هدايته ورحمته، وتمام نعمته عليه دنياه وأخراه فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن