فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك وتعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحي قلبه، ويستنير ما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
ولما علم الله سبحانه وتعالى حَسَد العدو للعبد، وتفرْغه له، وعلم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته، وكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك منه، واستجر بي أجيرك منه، وأكفيكه وأمنعك منه.
وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يومًا: إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، ومدافعته، وعليك بالراعي فأستغث به فهو يصرف عنك الكلب، ويكفيكه.
فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه.
فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكان الحائل بينه وبين ذلك، النفس والشيطان، فإن النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، وطُرد ألم بها الملَك، وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها.
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه، بأن يناجيه ويخاطبه، وقلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، وقد ولاه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة ويسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا.
فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضين.
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحه وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربه له، وكأنه يسمعه وهو يقول: "حمدني عبدي" إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقفَ لحظة ينتظر قوله: "أثنى عليَّ عبدي".
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} انتظر قوله: "مجدني عبدي".
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر قوله تعالى: "هذا بيني وبين عبدي".
فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها انتظر قوله: "هذا لعبدي ولعبدي ما قال".
ومَن ذاق طعم الصلاة عَلمَ أنه لا يقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما مقامها، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلَكل عبوديته من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل في غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخُصها لا يوجد في غيرها.
فعند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تجد تحت هذه الكلمة إثبات كلّ كمال للرب وصفًا واسمًا، وتنزيهه سُبحَانه وبحمده عن كلِّ سوء، فعلًا ووصفًا واسمًا، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، مُنزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه.
فأفعاله كلّها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ولا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت جلال، وأسماؤه كلّها حُسنى.
وحمده تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة، والسموات والأرض، وما بينهما وما فيهما، فالكون كله ناطق