ينظر لمن حوله فيجدهم يحسنون التعامل مع كل شيء .. مع الماء، مع النار، مع الأبواب والنوافذ، مع التلفاز والأجهزة المختلفة، بينما لا يستطيع هو أن يفعل مثلهم، لذلك ينظر إليهم نظرة إجلال وإكبار، ويضعهم في مقام الأستاذية والتوجيه، فيسلم لهم قياده، ويُملِّكهم من ذاته بالكلية ليمدوه بخبراتهم وما تعلموه في الحياة، وما يعتقدونه من مفاهيم وأفكار سواء كانت صحيحة أم خاطئة -وفي الغالب تكون أول جهة لذلك التوجيه هي الأبوان اللذان تتفتح عيناه في الدنيا فيجدهما أمامه.
فالابن في السن الصغيرة ينظر إلى أبويه نظرة استعظام، لما يراه منهما من قدرة على التعامل مع الأشياء ولأنهما أيضا مصدر شعوره بالراحة والأمان والشبع، لذلك فهو يتأثر بهما تأثرًا بالغا، ويأخذ منهما كل ما يمكن أخذه في هذه السن .. وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (?).
فعلى سبيل المثال: الطفل الذي يولد في الصين يولد وهو لا يعرف الصينية لكنه يجد أبويه ينطقان بأصوات لا يعرفها، وتؤدي هذه الأصوات إلى حدوث التفاهم بينهما، وقيام كل منهما بأفعال نتيجة سماعه لها، فهو يسمع أمه تقول شيئًا فيحضر أبوه شرابا (الماء)، ويسمعها تقول شيئًا آخر فيحضر طعامًا، وهكذا، فيؤدي ذلك إلى زيادة شغفه لتعلم هذه الأصوات، فينصت لهما، ويتعلم منهما ليكتسب بمرور الوقت القدرة على الفهم والنطق والتعامل باللغة الصينية.
هذا الطفل لو ولد في الهند لتعلم الهندية، ولو ولد في مصر لتعلم العربية، فالابن يعتبر أبويه هما عالمه ومصدر توجيهه، لذلك يستسلم لهما، ويأخذ منهما كل ما يمكن أخذه من أقوال وأعمال وردود أفعال، وتعامل مع الأشياء مهما كانت نوعية هذه الأمور.
وكلما كبر سن هذا الطفل قل احتياجه للآخرين وقلَّ كذلك استعداده للتلقي منهم، وتبدلت نظرته لغيره من نظرة انبهار بما عندهم إلى نظرة عادية، فقد أصبح يمتلك رصيدًا لا بأس به من المعرفة والتجارب والمعتقدات تمكنه من السير في الحياة والتعامل مع مستجداتها. فإذا ما قلَّ احتياجه للآخرين قلت رغبته في التلقي منهم، وهذا لا يحدث في يوم وليلة بل يتناقص شعوره بالاحتياج للآخرين تدريجيًا بعد مرور سنوات عمره الأولى .. هذا التناقص يعكس تقلص مساحة الفراغات الموجودة في شخصيته.
والسبب الآخر لعدم ظهور ثمرة التربية بصورة مُرضِية هو رسوخ بعض المفاهيم والمعتقدات داخل الإنسان سواء كانت صحيحة أو خاطئة .. هذا الرسوخ يزداد عمقا كلما تقدم العمر، ومن ثم فإن تغييره يصبح أمرًا عسيرا.
ولئن كانت التربية الإسلامية هي إحداث أثر «إيجابي» دائم في ذات الإنسان، فإن هذا الأثر الدائم تزداد صعوبة إحداثه كلما تقدم العمر وذلك لرسوخه وتأصله.
هذا الرسوخ يزداد عمقا وتجذرا بمرور السنين، ويصبح كالجبال الرواسي.
فلو فرضنا أن هناك شخصًا متواضعًا يقبل النصح من الآخرين، ويعطي لهم سمعه، وبصره، ولديه استعداد جيد للتلقي من غيره فإن هذا لا يكفي في عملية التغيير الجذري؛ لأنه مهما بلغت قوة تأثير الآخرين عليه إلا أنها لا تصل للحد الذي يؤدي إلى إحداث التغيير وزلزلة ما رسخ لديه وأصبح كالجبال الرواسي.
نعم، قد يتأثر بما يسمع أو يقرأ، لكنه في الغالب سيكون تأثرًا لحظيًا وسرعان ما يعود لسابق حاله الذي يعكس ما رسخ لديه من مفاهيم ومعتقدات وتصورات.
وهذا مما يفسر لنا عدم ظهور ثمرة التربية.