وما ينطبق على العلوم الكونية ينطبق على العلوم الأخرى، فالعلم بالتاريخ علم مهم ولكن ينبغي أن يكون تاليًا ومنطلقًا من العلم بالله عز وجل، فنرى من خلاله أفعاله سبحانه، وسنته في خلقه عبر الحقب والأزمنة السابقة فيزداد تعرُّفنا عليه، وخشيتنا له، وتعلقنا به.

العقل المُعطَّل:

خلصنا مما سبق إلى أن وظيفة العقل الأولى هي التعرف على الله عز وجل، لذلك فإن المطلوب من المسلم دومًا أن يقوم بتنمية عقله، وتوسيع مداركه، وفتح نوافذه لتحصيل هذه المعرفة.

إن العقل البشري به كم هائل من النوافذ والخلايا التي تقوم باستقبال وتخزين المعلومات، ويكفي أن تعرف أن بعض الأبحاث العلمية أثبتت أن عدد خلايا المخ يصل إلى ما يقارب 200 بليون خلية .. هذه الخلايا لديها من الكفاءة ما يمكنها - بإذن الله- من تخزين حوالي 100 بليون معلومة، وأن أقصى ما يستخدمه الإنسان من هذه الكفاءة لم يتجاوز العشرة بالمائة (10%) .. والسبب الرئيس في ذلك هو ابتعاده عن أداء الوظيفة التي خلق من أجلها، والتي تستلزم منه التفكر فيما يراه من أحداث، وما يتجدد من مشاهد لمخلوقات متنوعة، وأحداث متقلبة، والاستدلال من خلال هذا التفكر على صفات خالقه.

ومهما نجح الإنسان في اكتشاف الجديد، ومهما استخدم عقله في الاختراعات المبهرة النافعة إلا أن هذا كله - مع أهميته وضرورته- لا يستهلك سوى قدر محدود من إمكانات العقل، في حين تظل أغلب نوافذ هذا العقل مغلقة، لأنه - في الأساس- قد خُلق لوظيفة عظيمة تستلزم منه أن يُطل على العوالم المختلفة المحيطة به، وعلى ذاته التي تحتوي على صورة مصغرة من كتاب الكون، فيتعرف من خلالها على ربه.

من هذا التصور لوظيفة العقل الأولى نُدرك أن الاهتمامات العلمية في العصور الأخيرة للبشرية -مع أهمية الكثير منها في نفع حياة الإنسان «الطينية» - تنحصر في قشرة صغيرة، وسطور قليلة من كتاب الكون العظيم، وصدق الله العظيم "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ - أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ" [الروم: 7، 8].

فلننتبه قبل فوات الأوان:

فإن كان الأمر كذلك، وإن استمرت غفلتنا عن حقيقة وجودنا، وعن أهمية استخدام العقل في الاتجاه الصحيح، فمن المتوقع أن مشاعر الحسرة والندم ستتملكنا عند الموت، وبعد انكشاف الغطاء الذي يفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة .. سيشتد الندم على تضييع العمر وعدم الانتفاع بالعقل في الوصول إلى معرفة الله عز وجل "لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" [ق: 22].

ويكفيك تأكيدًا لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآيات: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ" [آل عمران: 190]: «ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر بها» (?).

ولعل المثال التالي يقرب لنا المعنى أكثر وأكثر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015