لو أن رجلاً سافر إلى مكان ما للنزهة والاستجمام، وأقام في حجرة بأجمل فندق في هذا المكان .. هذه الحجرة تطل على مناظر ساحرة خلابة ما بين نهر جار، وحدائق غناء، ومناظر مبهرة تخطف بالأبصار .. ، وكل جهة من جهاتها بها عدد كبير من النوافذ المغلقة والمغُطاة بالسُتُر، فما كان من هذا الرجل إلا أن سأل عن النافذة التي تطل على مدخل الفندق، والساحة المحيطة به حيث تقبع سيارته، وظل طيلة وجوده ينظر من هذه النافذة فقط ويراقب حركة القادمين والمغادرين، ويطمئن على سيارته، وبعد انتهاء مدة إقامته، وبينما هو يغادر الفندق إذا به يلتقي بصديق له كان يقيم في نفس المكان، وإذا بحالة من الانبهار تسيطر على هذا الصديق والتي ترجمتها كثرة حديثه لصاحبنا عن المناظر الخلابة التي رآها، وأشعة الشمس وهي تتعانق مع صفحة الماء، وألوان الأزهار التي تسر الناظرين و .. ، ويستمر حديث الصديق وصاحبنا يقف مذهولاً، فهو لم يرَ أي شيء من هذا لأنه لم يحاول فتح النوافذ التي تمتلئ بها حجرته، واكتفى بفتح واحدة منها لم تنقل له عُشر معشار ما رآه صديقه!!
بلا شك ستتملك صاحبنا مشاعر الحسرة والندم على ما فاته من متعة، وسيظل يقول في نفسه: يا ليتني حاولت فتح النوافذ الأخرى، يا حسرتي على الإجازة التي لم أستفد بها إلا يسيرًا.
هذا الحسرة لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى جانب حسرة من ينشغل طيلة حياته بطين الأرض، ويستخدم جزءًا يسيرًا من عقله للحفاظ على حياته الطينية دون أن يحاول فتح نوافذه ليطل من خلالها على العالم الكبير الذي خُلق لأجله.
من هنا ندرك أهمية التفكر، وكيف أنه عبادة عظيمة ينبغي علينا أن نمارسها باستمرار لنفتح من خلالها نوافذ العقل، فتزداد مساحة الرؤية، وتتسع تبعًا لها درجة المعرفة بالله عز وجل .. قال صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله» (?).
وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وكان سفيان بن عيينة كثيرًا ما يتمثل بقول القائل:
إذ المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
فبالتفكر لا يترك المسلم (مسارح النظر ترقد ولا تكرى إلا وهو يقظان الفكر .. نهار يحول، وليل يزول، وشمس تجري، وقمر يسري، وسحاب مكفهر، وبحر مستطر، ووالد يتلف وولد يَخلُف، ما خلق الله هذا باطلا، وإن بعد ذلك ثوابًا وعقابًا) (?).
ليس المقصد من تحصيل العلم بالله عز وجل هو المعرفة العابرة التي تختلط بالمعارف المختلفة ولا تشكل يقين الإنسان، بل المقصد معرفة ترسخ في العقل الباطن، وتشكل اليقين، فتتداخل وتتشابك وتصوغ تصوراته ومفاهيمه، فيصبح صاحبها من الراسخين في العلم بالله عز وجل "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا" [آل عمران: 7].