وقوله: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" [الزمر: 9].
لكي ندرك أكثر وأكثر غاية العلم علينا أن نتذكر غاية وجود الإنسان على الأرض والتي تتمثل في تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل وما تشمله من معان مختلفة يقف على رأسها: طاعته سبحانه، وخشيته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والأنس به، ودوام الإنابة إليه، والاستسلام له، والاستعانة به، والتضحية من أجله، وإقرار شرعه.
ولأن هذه المعاني لا يمكن تحقيقها إلا من خلال المرور من باب «المعرفة» بالله عز وجل -كما أسلفنا- كانت غاية العلم هي: «التعرف على الحقائق التي تصل بالمرء إلى تحقيق العبودية لله عز وجل بمعانيها المختلفة».
بهذا ندرك مفهوم العلم النافع ومدى ارتباطه بتحسين المعاملة مع الله عز وجل، وبهذا المفهوم -أيضًا- يمكننا التعرف على مدى قُرب أو بعد العلوم المختلفة من العلم النافع، مع الأخذ في الاعتبار أن معرفة الأحكام الشرعية، وما يرضي الله عز وجل وما يبغضه من الأهمية بمكان، وهي تحتل المرتبة التالية للعلم بالله عز وجل وآياته وأفعاله في خلقه، وذلك لضرورتها في تحقيق العبودية الحقة له سبحانه، فالذي امتلأ قلبه خشية لله عز وجل يحتاج أن يعرف ما الذي يُرضي ربه فيفعله، وما الذي يبغضه فيتجنبه.
لذلك فإن من جمع العِلمين (العلم بالله، والعلم بأحكامه) فقد حاز قصب السبق في ركب العلماء، ويلي ذلك العلم بالله دون العلم بجميع أحكامه، أما الصنف الثالث والذي يتمثل فيمن يعلم الأحكام وليس لديه علم حقيقي بالله، فهذا الصنف مذموم لأنه قد يُطَوِّع هذا العلم في اتجاه هواه وكل ما يجعله محل رضى الناس فيكون ذلك سببًا في هلاكه والعياذ بالله.
قال سفيان الثوري: «كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله وليس بعالم بأمر الله، وعالم بالله عالم بأمر الله يخشى الله فذلك العالم الكامل، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله لا يخشى الله فذلك العالم الفاجر» (?).
من هنا نقول أن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل به العقل -أول ما ينشغل- هو العلم بالله عز وجل، وأن أي علم آخر ينبغي أن يكون تاليا له، منطلقًا منه.
إن علم التوحيد الحقيقي هو «الباب الأعظم» الذي ينبغي أن ندخل منه جميعًا، وبعد ذلك ندخل إلى العلوم المختلفة حتى نتمكن من الاستفادة الحقيقية منها في تحقيق العبودية لله عز وجل، فإن لم يحدث هذا، وبدأ المرء في تعلم العلوم المختلفة متجاوزًا العلم بالله عز وجل فإن مقصود هذه العلوم لن يتحقق بالصورة المطلوبة.
فعلى سبيل المثال: عندما يتعلم المرء العلوم الكونية قبل تعلمه العلم بالله عز وجل فإنه لن يستطيع -بتلقائية- أن يربطها بالله عز وجل، ومن ثم لن تزيده معرفة به سبحانه، وإن تكلف ذلك.
أما إذا تعلمها بعد دخوله من «الباب الأعظم» للعلم فإنه سيستفيد بها استفادة عظيمة في الاستدلال على الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة عليه، فيزداد بهذه العلوم معرفة بربه ومن ثم خشيته وهذا ما يؤكده قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ - وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: 27، 28].