كأنه ينحط من صبب، لا تعارض بين هذا وهذا، مع الهون، يعني يقارب بين الخطى ويمشي هوناً، ومع ذلك يطوي المسافات، بمعنى أنه لا يتماوت في مشيه بحيث ينتهي وقته ولم يدرك شيء، ولا يعني أنه يسرع سرعة ينتقد فيها، ولا شك أن السرعة محل انتقاد، وهي مظنة سفه، مظنة أفعال غير الرجال الكمّل، وأما هو -عليه الصلاة والسلام- فمشيه متوسط، فإنه لا يتماوت كما يفعله بعض من ينتسب إلى النسك، التنسك، وليس أيضاً بعض ممن يمشي مشية السفهاء من العجلة وإحداث الأصوات من قرع الأقدام وما أشبه ذلك.
قوله تعالى: {هَوْنًا} الهون مصدر الهين، وهو من السكينة والوقار، وفي التفسير: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع)).
وروي في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا زال زال تقلعاً، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هواناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، التقلع: رفع الرجل بقوة، والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده، والهون: الرفق والوقار، والذريع: الواسع الخطى: أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال، ويقصد سمته.
سمته: يعني جهته التي يريدها، لا يحيد عن طريقه يميناً ولا شمالاً.
وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال: كأنما ينحط من صبب، قاله القاضي عياض، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسرع جبلةً لا تكلفاً، قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه، قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث؛ لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط، وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [(63) سورة الفرقان] فما وجدت في ذلك شفاءً فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
قال القشيري: وقيل لا يمشون لإفسادٍ ومعصية بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [(18) سورة لقمان].